mena-gmtdmp

الحنين إلى الخيزرانة

رحاب أبو زيد
بالتأكيد ليس حنيناً لخيزرانة المعلم أو الوالد الذي كان يضرب بها الأولاد، ولكن لتراث عزيز حفظته في ذاكرتنا أصواتٌ حميمة لمطربين من الحجاز، أمثال: إبتسام لطفي وطلال مداح وفوزي محسون وغيرهم من أصحاب الحس المرهف والفاتن، هؤلاء الذين أطربوا الدنيا بقانون الفن من أجل الفن، فعملوا بجد رغم بساطة التدخل التقني على نقل المغزى والمعنى وحفظ التراث، وكان لعشق الأسبقين لأغنية مثل الخيزرانة أن جعل أرواحهم تدوم متألقة إلى اليوم، «لا لا يا الخيزرانة في الهوا ميلوكِ لا لا وإن ميلوك مالت الروح معاك»... في هذا المدخل وحده قصة حيّة عن الرقص بعصا الخيزران، الذي كان شائعاً في حواري مدن الحجاز في الأفراح والمناسبات، وهي الرقصة التي تم منعها لفترة؛ نظراً لما تسببت فيه من ضرر عندما يزداد الحماس فتنقلب الرقصات والأهازيج إلى معركة دامية، إلاّ أنها تعود بإصرار في كل مناسبة معبّرة عن تاريخ الفتوات والرجولة، ثم تقول كلمات الأغنية القديمة: «لا لا وزمام سيدي طاح في جبة البير لا لا وجنيه أبو سيفين للي يجيبه»... وهنا نتقصى قصة أخرى تضم مفرداتها عذوبة وتفاصيل لم تعد مستخدمة اليوم، ولا يعرفها جيل الجانجام ستايل، فالحبيب يعد بمكافأة لمن يحضر زمام محبوبه، الذي وقع في البئر، وهي عبارة عن قطعة معدنية مسبوكة بسيفين محفورين؛ كناية عن أنها قطعة غير مزيفة، وأنها عطية مجزية! لكن الزيف يطال هذا اللحن الجميل وهذه الكلمات الرقيقة في الوقت الراهن؛ حينما يغنيها مطربو جلسات وناسة بركاكة اللغة وعدم إتقان اللهجة المحلية، بل ومحاولة تحويلها لأغنية خليجية من حيث نوع الرقصات المصاحبة والإيقاع، في حين أن جميعنا يعرف تماماً الفرق بين الإيقاعات الخليجية والإيقاعات المميزة لمنطقة الحجاز، مما أحدث دماراً شاملاً للأغنية، كما جري تماماً لأغنية «سليّم» و«راوية» من مطربين جدد يسعون للبروز من خلال إعادة إحياء التراث بطريقة مسيئة لأهله ومحبيه ولزمن بطوله، ولتاريخ منطقة عريقة وثرية انتشر إلى أصقاع الدنيا بتمسكه بلونه الخاص، وليس بتجريده من أصله وجذوره. استسهال التنازل عن موروث ثقافي فني كذلك المخبئ في باطن الخيزرانة ما هو إلا إعلان عن موت الإبداع والتخلي العلني عن القيمة التاريخية والهوية المتفردة لمنطقة أو لدولة، ومع الأسف نتقبل ذلك بأريحية؛ لأنها موجة السائد، ولأن الرقابة لا تشمل هذه الأعمال ولا تمنعها ولا تتصدى لحمايتها من عبث الإنتاج والبحث عن الربح المادي، فتمتلئ الأسواق بمعزوفات فنية هزيلة مكررة، ويمتلئ وجدان الشباب بتخمة الركاكة؛ ظناً بأنها أعمالٌ جديدة رغم ما طرأ عليها من تغييرات في اللحن والكلمات... فمن يحمي حقوق فنانين رحل معظمهم تاركين الجمال والذكرى؟ ومن يحمينا من غثاء مضطرب تحت اسم غناء؟