من يحبني يتبعني

نجاة غفران


عيناه تترصدان كل حركة أقوم بها. أشعر بهما دون أن أراهما... تتطلعان إلي، تترقبان ردات فعلي، تحصيان دقات قلبي، تطوقاني من كل جانب.
هل فقدت عقلي...؟ لا أدري... ولكنني صرت كتلة أعصاب متحركة، تهدد بالانفجار في كل لحظة.
وضعي معقد. أنا مجبرة على أن أختار أحد الطرفين. أهلي... أو... هو.


أقرأ كلاماً كثيراً في عينيه. وأنتظر.
صالة التحرير الأنيقة خلية نحل. وهو في مكتبه الزجاجي يتتبعني.
اتصاله مساء الأحد الماضي لم يكن مفاجئاً. عرفت بأنه سيقوم بتلك الخطوة. لا يمكن أن نمر من الجحيم الذي عرفناه في الشهور الماضية دون أن تكون هناك تتمة لقصتنا.
الحكاية ليست شيئاً خارجاً عن المألوف. خطيب أختي، رئيس تحرير دورية وطنية، انفصل عنها بعد تعرفه علي.
لقاؤنا كان مشهداً سينمائياً بكل المقاييس.


عدت إلى الوطن بعد ثلاث سنوات من العيش في الغربة. حصلت على دبلوم لغات ورغبت في تجربة العمل في إحدى شبكات الأخبار التلفزيونية. العشاء الذي أقامه والداي احتفاء برجوعي كان وليمة حقيقية دعيا إليها الكثير من الأهل والمعارف. وهناك، بين طاولات الأكل المنثورة حول حوض السباحة الذي يتوسط حديقتنا، قابلته.
حول نظره عن الشخص الذي كان يحادثه وتطلع إلي، وحبست أنفاسي.


الحب من أول نظرة. هل تعرفون؟
كأنني تلقيت لكمة عنيفة في صدري. بلعت ريقي ورأيت ردة فعلي تنعكس في عينيه. لم تكن هناك حاجة للكلام. حدث ما حدث... وكفى.
اقتربنا من بعض ومد يده نحوي واختفى كل شيء ولم يعد هناك غيرنا.


لا أدري متى جاءت أختي ووالداي، ولا كيف مرت السهرة، ولا ما الذي حدث بعد ذلك.
قدموه لي، ورغم وخزة الألم التي شعرت بها عندما عرفت بأنه خطيبها، لم أستطع الابتعاد عنه ولا التوقف عن النظر إليه. بصمت.
تصرف مثلي. ولم نعبأ بنرفزة أختي ولا بحنق والداي.
بقينا طيلة الوقت نتطلع لبعضنا، وقلبانا يدقان كالطبول.


لم يضيع وقته. يومان بعد ذلك، تحدث مع أختي، وفسخ الخطبة، وكلم الوالدين في شأني، وكما كان منتظراً، طرد شر طردة.
بيتنا صار جحيماً. والداي يحملاني مسؤولية ما حدث، وأختي لا تطيق رؤيتي ولا سماع صوتي، وهو يتبعني أينما ذهبت، يلاحقني بالمسجات، يتصل بي في أعماق الليل، يطلب رؤيتي ويقول لي كلاماً دافئاً مثيراً محيراً يشعرني بأنني أتميز عن غيري، وأعيش في دنيا غير التي يعيش فيها المحيطون بي.


عرض علي العمل معه، وقبلت. فكرت في أن أهلي سيذبحونني، ولكنني لم أكترث. الأمور في البيت صارت معقدة، وعرض والداي يجبرني على القيام بالخطوة التي لن أستطيع في كل الأحوال أن أتفاداها. لم أعد أملك الخيار. حياتي بدونه لن تستمر. وعلاقتي بأختي تدمرت، ووالداي لن يتوقفا عن تحميلي مسؤولية ما حدث حتى لو قررت الابتعاد عنه والعودة إلى البيت.
يريد أن نتزوج، ونرحل بعيداً.
تكلمنا في الأمر، وطلبت مهلة تفكير.


أريد القيام بمحاولة أخيرة لتطييب خاطر الوالدين. أختي وأعرفها. لن تسامحني أبداً. ولكن... أبي وأمي... لا أريد أن أبتعد عنهما وهما غاضبان علي. لم يكن الأمر بيدي. لم نختر مشاعرنا، أنا وهو، وليس من العدل أن نضحي بما بيننا من أجل تهدئة خواطر لن تعود في كل الأحوال إلى سابق عهدها.
أشعر بعينيه الحارقتين تتبعاني في كل حركة. أرفع رأسي وأنظر اليه، وأحبس أنفاسي.
كل هذا الحب...


عيناه تتلقفاني بجنون، وأنا أطير وقد خف وزني وصرت نفساً ساخناً يسبح في الهواء ويتمدد، يتمدد إلى لانهاية...
أبتسم بذهول، ويبتسم لي، وأعرف بأنني اخترت طريقي... وسمعت نداء قلبه الصامت.
من يحبني يتبعني.
لن أخيب ظنه.