ممكن أن يقوم بها أي إنسان هي الإبحار داخل أعماقه، فمرحلة اكتشاف الذات هي مرحلة مهمة يُحدد من خلالها خط سير الإنسان في مشوار حياته، ومواجهة النفس تختلف عن الإبحار فيها، فأنا كنت يوميًّا أقوم بمواجهة ذاتي، وعادة ما تكون محاسبة سريعة، لكن عندما حاصرت نفسي وواجهتها بكل صرامة وصدق وبكل عمق وأمانة وجدتها تعيش على حافة مفترق خطير، ولن أقول إن ظروفي هي السبب فيما وصلت إليه، لأنني اكتشفت أن الظروف كانت من صنعي أنا، فكان لا بد من أن أوقظ نفسي وأطرح الأسئلة والاستفسارات على ذاتي الحائرة بين كياني.. فما الذي فعلته خلال مشواري وما الذي حققته وأنجزته؟ وهل حقيقة أنني اكتشفت نفسي وعرفتها وفهمتها؟ وكيف كان أسلوب حياتي؟ وهل حققت طموحاتي وأحلامي؟ وهل أصبت أهدافي؟ هل اتسعت دائرة علاقاتي أم فقدت منها العديد؟ وما أهمية ما فقدته وما مدى ما كسبته؟ هل استفدت من التحديات والمعوقات التي واجهتني؟ هل أثقلتني معاناتي أم أثقلتها؟ هل صادقت دنيتي وصادقتني؟ وهل أعيش حالة صلح مع ذاتي؟ وهل أتقنت فن التعامل مع نفسي ومع الآخرين؟ لعل أغلب هذه الاستفسارات لن أجد لها إجابة واضحة ومحددة، لقد مرّ عليَّ الكثير من المواقف المؤلمة والسلبية والصعبة التي أثرت على اتخاذي لقراراتي، فكثيرًا ما كنت أضغط على نفسي وأحرمها مما كانت تتمنى إرضاء للآخرين، حتى عملي الذي وضعت له أهدافًا واضحة ومخططة لرسالة رائعة، واعتبرت نفسي حاملة لهذه الرسالة، لم أحقق ما كنت أتمناه لأني مع الأسف اكتشفت أن جهلي بالتعامل مع الواقع، وما يحيط به من بشر كان له أكبر الأثر على نفسيتي ،حتى تفوق عليَّ وأحكم سيطرته على مواقفي، وبدأ الاستسلام كرد فعل منطقي، لكن بعد دعائي ولجوئي لخالقي أن ينير طريقي وبصري وبصيرتي، عدت ووجدت نفسي وكأنها ولدت من جديد وبدأت أنظر للأمور بطريقة مختلفة ومن منظور متوازن، ومن خلال هذه الفلسفة تعلمت ،وأدركت ما ليَّ من حقوق وما عليَّ من واجبات، واكتشفت أني كنت المذنبة في حق نفسي بعدما تركتها تدور في عالم صنعته بفطرتي، وكنت لا أدرك دورانها بالمعنى الحقيقي، إما لجهلي أو لحسن ظني، والأغلب لإيماني بصور مثالية كنت متيقنة من وجودها على سطح هذا الكون، وبدأت تظهر لي الحلول من تلقاء نفسها، واكتشفت أمورًا كثيرة حدثت خلال رحلتي، كان لمجتمعي دور كبير في تأثيره على قراراتي لصالحه، لكن بفضل الله سبحانه وتعالى صارت الحقيقة جلية أمام ناظريّ، لحظتها صادقت ذاتي وتمكنت من مواجهة نفسي بكل عيوبها بكل ثقة من دون لوم أو تجريح، وهكذا سبرت أغوار نفسي وبدأت اكتشفها وغصت في أعماقها وتعرفت على الأمور والمواقف والأشخاص الذين جعلوا مني إنسانة قلقة ومتوترة وحزينة، فابتعدت عنهم وتوطدت علاقتي مع ربي ،فهو سبحانه منْ ساعدني حتى استطعت التغلب على المحبطات والمعوقات، وهو سبحانه من أزاح الغمامة التي كانت تعشش فوق تفكيري، وهو سبحانه من أمدني بالقوة للوقوف من جديد على أرض صلبة، وهو سبحانه منْ أنار بصيرتي لأعرف بعض الناس على حقيقتهم، وأصبحت لا أهتم بأمور لا يجدر بي الاهتمام بها، فليس عليَّ إرضاء الناس على حساب راحتي ما دمت لا أتعدى على حقوق غيري، فلكل شيء حدود، وعرفت أخيرًا ما كان ينقصني، وحددت أولوياتي، وبدأت بعدها ببناء أعماقي على أساس قوي ومتين يقاوم التوتر والقلق، وتيقنت بأن ثقتي بذاتي هي منبع معرفتي لقدر نفسي، وأن نظرتي لذاتي هي التي تحدد مكانتي بداخلي وليس عند الآخرين.
وعمومًا، فإن المعاناة التي تواجهنا كبشر تصبح في النهاية خبرات نكتسبها في مسيرة حياتنا، ونتعلم من خلالها مهارات نواجه بها مشاكلنا، وتمنحنا الحكمة والقدرة للوصول لقرارات سليمة وتعامل راقٍ لا نظلم فيه الآخرين، وقبلها لا نظلم أنفسنا.
أنين الذات
حدِّد لنفسك مكانتها.. إما معلمًا معمرًا في القمة، أو مدمرًا في القاع، واعلم أنك صانع القرار في وضع نفسك مكانًا ترتضيه لها، فإن كنت تقبل الحفر فلك ذلك، ولا تلم مجتمعك أو محيطك أو حظك، فالعمل مفتاح الأمل وليس الحظ.. فكما أن المجد صناعة فإن الحظ أيضا صناعة.
د. صالح إبراهيم النفيسي