يظن من حولي أنني أحيا الحريَّة، ويحسدونني عليها. فليس هناك ما يقيدني، لكنَّهم لا يعلمون أنني قد مللت وتعبت من هذه الحريَّة المزعومة، إنَّها حريَّة مقيدة، حريَّة وهميَّة. ماذا يتوقعون من سيدة يتيمة المشاعر، اصطدمت أفكارها وأمنياتها وطموحاتها بواقع قاسٍ لا مفر منه، فتاهت مني السعادة، ولم أستوعب إلا عقلي، ولم أشفق إلا على عواطفي الغائبة وأحاسيسي المتبلدة، فأصبحت أعيش في وحدة مقيمة، وكأنني أسحب أيامي المذبوحة على أسوار وحدتي، وأودع أحلامي التي حطت كالعصافير فوق شجرة خريفيَّة نامت تحت المطر، وبات الخوف يعصف بها من الجهات الأربع. عزلة تأبى الرحيل، زرعت بداخلي إحساساً غامضاً ينتاب قلبي، ويحرك شعوراً مخيفاً في صدري. إحساس يخبرني بأنني خسرت سنوات عمري وشبابي، وأحيا في المحطة النهائيَّة لحياتي... فأنا أعيش حالة سكون نفسي، ليس بجانبي إنسان أسعده ويسعدني، يحاورني وأحاوره، أخاصمه ويصالحني، يغضبني وأراضيه. أفتقد ذلك الشعور الذي يحسسني بدوري الطبيعي في الحياة، لكن ليست كل الأمور تؤخذ بالتمني. فغالباً ما تعاندني الظروف وتضعني أمام الأمر الواقع رغماً عن إرادتي، وينشغل كل من حولي بحياته وتتباعد كلماتهم وزياراتهم، وتمر ساعات النهار بتثاقل، وتطول وتتمدَّد ساعات الليل، وتحاصرني برودة جدران حجرتي، لحظتها ينتابني إحساس مرير بأنَّ مكاني تحدَّد في ركن موحش، فأتقوقع في فراشي تحت سقف عالٍ، جدرانه صلبة، أحتمي بداخلها؛ لأحافظ على توازني. تلاحقني عشرات الأفكار والمشاعر في ثوانٍ إلا إنَّها تعد زمناً، فهناك أحداث تقع وفق حساباتنا وإدراكنا لهذا الزمن، وهناك أحداث تقع وفق حسابات الخيال. أعود وأستسلم أمام واقعي، أبكي للحظات ثم أهدأ بعدها، وتعود المياه إلى مجاريها، وأحياناً كثيرة لا تعود، لكن أرسم لها مجرى آخر لتسير فيه، وأشعر بالألم داخل أعماقي، ولا ألبث أن أهوِّن على نفسي، وأحياناً أتعاطف معها وأهمس لها بأنَّ الأمل في طوق النجاة يكمن في العودة لممارسة الحياة بصورة أفضل، فأتحلى بالصبر، وأحبس في أعماقي آهاتي، وأحاول أن أبعد ذاتي عن مصدر الشقاء والكآبة. ولكن لا ألبث أن أغوص في ظنوني وأسأل نفسي بلهفة المشتاق: ترى متى تتحقق سعادتي؟ ومن تراه يستحق أن يمتلك قلبي وإحساسي ومشاعري؟ ومتى يأتي اليوم الذي أحقق فيه أمنياتي مع من يمتلك كياني؟ فالحياة ستسير، سواء رضيت أو سخطت، ولا خيار أمامي سوى الثقة بربِّ العباد، واللجوء إليه، والرضا التام بقدري؛ لأنَّ القافلة لن تتوقف، ولن تنتظرني، فنحن من نُسعد أنفسنا، ونحن بأيدينا من نتعسها عند تطبيق مفهوم (الرضا بالقضاء والقدر) ونتقبل الأقدار بمرونة وإيمان. خالقي.. أنت كما أحبُّ فاجعلني كما تحب.
همس الأزاهير
غداً بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن في المقبل
ولست بالغافل حتى أرى جمال الدنيا ولا أجتلي
أحمد رامي