أغلى ما في الوجود هي الأم، هي الضوء الذي يرسل أشعته لكل زاوية من زوايا نفوسنا فيدفئه، هي الصدر الحنون، والروح الصافية، والآذان المصغية، والكيان الصامت، والنهر الذي لا يجف نبعه، هي التسامح بلا حدود، والعطاء بلا مقابل. أمي من دق قلبها بحبي قبل أن تراني، وضحَّت بالكثير لتسعدني. أقول ذلك لنفسي كلما تطلعت في وجه أمي، ولمست يديها، وقبّلت جبينها. ولكن في هذه المرة لا أدري لماذا تملكني شعور بالحزن، أهذه فعلاً أمي التي كنت أراها بعيني الطفوليَّة جميلة الطلة، شامخة قويَّة منطلقة في حياتها، ومشاغلها التي لا تنتهي. تتعب دون أن تشتكي.. تعطي دون أن تنتظر منا الشكر، محبَّة لوالدي متودِّدة له، لا يغمض لها جفن إذا اختلفا معًا حتى يتصالحا.. قلبها أبيض نقي كقلوب الأطفال.
والآن وبعد كل تلك السنين اختلفت نظرتي على الرغم من شموخ نفسها وعزتها، إلى أن ضعف جسدها، وآثار التجاعيد مرسومة على وجهها، وإحساسها بالوحدة برغم من حولها، حيث حرمت في عزِّ شبابها من الزوج العاشق الحنون. زوج كان بالنسبة لها الأب والأم والحبيب، فقد ارتبطت به في سن صغيرة، وعاشت معه في مكان بعيد عن وطنها وأهلها، لكنها مشيئة الله ولا راد لقضائه، وانشغلت بتربية ومتطلبات يتيمتنا الرضيعة، فكانت لها الأم والأب، صارعت لتمنحها الراحة والسعادة، وعانت من أجل أن توفر الدخل المادي، فلم تكن موظفة، أو صاحبة أملاك، وليس لها معيل يتكفل بمتطلباتها، بل قليل من تقاعد أبي -يرحمه الله- بالإضافة إلى ما تجود به نفس أبنائها. ومضت السنون، وكبرنا جميعًا، وتركها البعض لظروف الزواج والعمل خارج مدينته، وعاد إليها البعض الآخر لظروف الانفصال عن شريك الحياة، وانشغل الجميع عنها بالوظيفة، أو تربية الأبناء، والآن ماذا عنَّا، فوالدتنا وتاج رؤوسنا بحاجة إلينا أكثر من أي وقت مضى، وليست الحاجة مادية، على الرغم من أهميتها، لكن الاحتياج المعنوي والنفسي أشد أهميَّة، خاصة في السنوات الأخيرة التي فقدت فيها أخاها وأختها -يرحمهما الله- ولكم أن تتخيلوا مشاعر الإنسان برحيل إخوته، واحدًا بعد الآخر، فليس أقل بعد ذلك من أن نعوضها عن كل ما قاست وكابدت من أجلنا جميعًا، بدءًا من حملها لنا وولادتنا، ومرورًا بتربيتنا، وانتهاء بمشاكلنا وهمومنا التي لا ننفك نرمي بها عليها بين الحين والآخر، فلنعاهد أنفسنا -نحن أبناءها- بأن نجعلها ملكة قلوبنا، وتاج رؤوسنا، وأن نتحد جميعًا بكل ما أوتينا من قدرات وطاقات، ولنبادر -دون أن تطلب- لنعوضها ولو جزءًا يسير عما بذلته؛ برًا بها، وطاعة لخالقنا الذي أمرنا بالإحسان إليها؛ لننال رضاها الذي سيفتح لنا بابًا من أبواب الجنة، فضلاً عن أبواب الخير في الدنيا.