لست أنا!

نورا خليل
نورا خليل
نورا خليل

كنت أدخل من غرفة وأخرج إلى غرفة، أبحث عن شيء أفلت منّي.. أفتح الدواليب والأدراج بتوتّر وعصبيّة. ذات مرّة، دخلت غرفة ابنتي، كانت جالسة على مكتبها تراجع دروسها، فتحت الدولاب، فتّشت بين ملابسها، ثمّ تحت مخدّتها، ثمّ انحنيت لأرى إن كان ما أبحث عنه تحت سريرها. لم تقل ابنتي شيئاً أوّل الأمر، ولكنّها صاحت بغضب عندما اقتربت من مكتبها وبدأت أفتّش بين الكتب والكراريس: "أمّي! ماذا هناك؟ عمّ تبحثين؟".

 

توقّفت فجأة كمن كان تحت تأثير تنويم مغناطيسيّ وأفاق فجأة عندما سمع كلمة معيّنة تزيل الأثر. تساءلت بيني وبين نفسي عمّ كنت أبحث؟

في الحقيقة لم يضع منّي شيء! بل ما فُقِد لم يكن يخصّني! كان يخصّ شخصيّة من شخصيّات رواية كنت بصدد كتابتها. حدث هذا معي من قبل، أن تتلبّسني الشخصيات أو إحداها، فتخرج عن سيطرتي وتحاربني لتملي عليّ ما تريد أن تكونه وليس ما سطّرته لها من دور في الأحداث.

تحدث معي حالات من الهذيان والكلام خلال النوم، وحتّى وأنا يقظة تراني أحياناً أتحاور مع شخصيّة ما أحاول إخضاعها إلى مصير لا تحبّه.

أنا امرأة تكتب.. تكتب لتهرب من وهم الحياة، لتنجو من مطبخ الأكل والضرورة، إلى مطبخ الخيال والحرية، ولتتوه في رحلات بعيدة، مع شخصيات جذلى أو متوتّرة أو خرافيّة، تبحث في مسيراتهم عن أجوبة لأسئلة كثيرة تدور في ذهنها.

وأنا أعشق حالة التوهان تلك، التي تجعل كل شيء ممكناً، وبجرّة قلم أحوّل شخصياتي إلى كائنات سحرية يمكنني أن أجعلها تطير وتسبح، وتصمت وتهذي، تحلم وتأمل، تحيا وتموت.

أحياناً تنقلب الأدوار، فتأسرني شخصيّاتي فأصبح عبدة مطيعة أنصاع كليّاً للأوامر، تعاندني، ويفلت منّي زمام الأمور وأخلط بين الحقيقة والوهم، وأشعر بأنّني أعيش بين عوالم كثيرة متوازية ويضيع إحساسي بالزمن والمكان، وتسيطر عليّ الشياطين وتملي كلمات، تنساب بغزارة كشلّال من الماء الزلال لتملأ ذهني، فتتحرّك يدي اليمني والقلم بين أصابعي لتلتقط الكلمات المتساقطة بسرعة وترسمها على الورق. ترتجف الأوراق أحياناً، وتُسحر أحياناً، فتلين وتصبح كقطعة من الحرير، وتتكرمش أحياناً أخرى إذا انزعجت من هول الكلمات..

أنا امرأة تكتب، وعندما تُقرأ تُهاجم، يثور عليها الرجال ويتهّمونها بالكتابة النسويّة وكأنّها كتابة مزرية، بسيطة، تحكي عن الحبّ وتذرف الدموع من أجل حبيب غائب أو جاحد، وكأنّما ما يكتبه الرجال يعكس قوّتهم وبطولاتهم وجرأتهم.

هل للكتابة جنس؟

أليس الرجل مثل المرأة عندما يكتب يرعى جنيناً لمدّة قد تطول؟ يرعاه وتعتريه نوبات الهلع، خوفاً من إجهاض مباغت، يحبّه ويكرهه، يحترمه ويزدريه، يخافه ويعطف عليه وينتابه المخاض ثمّ يضع مولوده، ويتأمّله وقد اختلطت في قلبه مشاعر الحبّ والهلع!

وكأنّما اتّهامات الرجال لا تكفي، فتنتفض النساء ويتهامسن "يا الله! كيف تتجرأ على هذه الكلمات الفاجرة الخادشة للحياء؟".

ولكنني أصرّ وأتمرّد وأنعزل عنهم جميعاً، فالكلمات صديقاتي وكاتمات سرّي ومُفشياته. أعيش بين أوراقي لحظات السعادة وأهرب من عالمي الواقعي الحيّ، وأشعر بالانفصال عنه تماماً، ليصير عالمي مؤلفاً من ورق وحبر وخيال، وأنا أراه أفضل من كل ما عرفت من عالم الطبخ.

أفقت على صوت ابنتي تسألني من جديد إن كنت على ما يرام؟ تنفّست بعمق وأجبتها: "أنا بخير، ولا أبحث عن شيء، إنّها هي! لست أنا!"

خرجت من الغرفة وأغلقت الباب بهدوء.