سارق الفرحة

نجاة غفران

 

للمرة الثانية.. أراه خلفنا.
قلت لرندة، ابنة صاحب المحل: «ما الذي يريده؟ إنه يتبعنا..».
«من؟»، سألتني بامتعاض وهي تتابع حديثها: «كنت أقول..».
«رندة... إنه الشاب الذي كان يجلس خلفنا في المقهى، عيناه لا تفارقانك..».


«أوووه.. أيمكن أن يكون..؟ هو..؟ بهذه السرعة؟ دعيني أره..» التفتت مرتين أو ثلاثاً، وتراقصت خصلاتها الناعمة على كتفيها وهي تشهق وتتمتم بارتباك: «كلمه والدي إذن.. حدثه عن نقاشنا الأخير، معقول.. معقول أن يكون هو؟ ومن سيتبعنا غيره؟ رباه.. إنه وسيم.. وسيم جداً.. جو إيطاليا دون شك.. تعرفين.. القد الممدود والشعر البني الأملس والعيون الخضراء.. يا الله.. شيك وأنيق فوق ذلك.. اسمعي.. لنتمش بمهل.. أحتاج لأن أفكر في الأمر..».
منذ ساعات وهي تلوك نفس الكلام، لكن بنبرة مختلفة، والدها تاجر المجوهرات الذي أعمل في أحد محلاته، يريد تزويجها لابن أحد أصحابه. شاب يعمل في مجال قريب من تجارته، تصميم الساعات الفاخرة، والد الشاب الذي يتاجر في المجوهرات أيضاً أقنعه بنقل شركته التي بدأ اسمها يلمع في إيطاليا إلى المغرب، وهو يحاول أن يدفعه إلى الاستقرار بالبلد، ومن هنا جاءت فكرة تزويجه بفتاة مغربية.
رندة رفضت عرض والدها بعناد، لن تقترن بشخص لا تعرفه، الطريقة التقليدية لا تنفع معها، وهي لا تفكر الآن في الزواج، لديها مشاريعها الخاصة، « أفكر في إنشاء شركة لتنظيم المناسبات، تعرفين كم أحب الإشراف على تفاصيل الحفلات بنفسي، عرس أيمن أخي كان ناجحاً، تلقيت الكثير من الثناء على عملي، والدي غير مقتنع تماماً لكن أيمن وعدني بأن يساعدني إن فكرت في الأمر بجدية، لا وقت لدي الآن للارتباط..»، كان هذا كلامها وهي تحكي لي في المقهى عن نقاشها الحاد الأخير مع والدها: «أراد أن يدعو عائلة صاحبه إلى العشاء، قال إنها فرصة لكي نرى بعضنا.. تخيلي.. أم العريس التي ستأتي لتتفقد البضاعة.. ووالده الذي سيتذاكر مع والدي بشأن التفاصيل المادية.. وبسلامته سيجلس ليرقبني ويرى إن كنت أفي بالمطلوب، مسخرة والله.. والأدهى أنه يعيش في إيطاليا.. بهذه العقلية..».
الشاب الذي كان يجلس خلفنا في المقهى لم يفلت كلمة من حديثنا، عيناه ظلتا معلقتين بابنة رب عملي.
توقفنا أمام المحل، ومدت إليّ رندة المفتاح وهي تدس أناملها بخفة في شعرها: «كيف أبدو؟» سألت وتلفتت حولها «لايزال هناك.. يعبث بهاتفه، معقول أن أتوتر بهذا الشكل؟ هيا افتحي.. لا يعجبني ما يحدث لي ولكنني لا أستطيع تمالك نفسي.. يبدو.. يبدو شخصاً فريداً..».


المحل صغير بالمقارنة مع بقية محلات والدها، ولكنه مصمم بشكل أنيق وراق، والحلي المعروضة فيه بالغة الفخامة.
«أتمنى ألا يزعجنا زبائن الآن.. لا رغبة لي في استقبال أحد..»، همست وهي تتنهد، وتنحنح الشاب الذي يشغل بالها وهو يدخل ويلقي التحية.
لم تكن عيناه خضراوين، ولا شعره بنياً وأملس.. لكنه كان جذاباً بقامته الفارعة وملامحه المرسومة برقة.
ابتسم لرندة وتقدم نحوها، وقال إنه سعيد بالتعرف عليها.
تدفق الدم في وجنتيها، وابتسمت وهي ترد على مجاملته بلطف.


تنحيت بعيداً عنهما وانشغلت بتوضيب المعروضات وتفقد الحسابات على شاشة كومبيوتر المحل، بطرف العين، لمحت رندة تدعوه للجلوس على الكنبة المريحة في الزاوية، وتشير إليّ لكي أغلق الباب الزجاجي حتى لا يزعجنا الزبائن، وقمت أسأل إن كانت تريد وضيفها أن أطلب لهما شيئاً.
«بلاتوه قهوة من فضلك، وبإمكانك أن تنصرفي.. سأغلق المحل لاحقاً..».
«وسأساعدك..»، همس الشاب بنبرة عذبة، وترددت لحظة قبل أن أجيب طلبها، وأتناول حقيبة يدي ومعطفي وأغادر.
صباح اليوم التالي، اتجهت صوب المحل وأنا أفكر فيما ستقصه علي، كيف مرت جلستهما.. وما هي الخطوة التالية في علاقتهما..
ترجلت من سيارة الأجرة التي أوصلتني وأنا أنظر بدهشة إلى الجمع الواقف أمام المحل.


شققت طريقي وسط المارة ولمحت رندة تمسح دموعها، ورجال شرطة يحيطون بها.. ثم انتبهت الى واجهات العرض الزجاجية الفارغة، لا أثر للحلي، المحل فارغ تماماً، ورندة تبكي وترفع هاتفها.
صوتها المتهدج يعلو مؤكداً بأن خطيبها أحكم إغلاق البوابة الحديدية الثقيلة أثناء خروجهما.
خطيبها الذي لا تعرف شيئاً عن مكانه.
ووالدها القادم في الطريق على ما يبدو يصرخ في السماعة ويردد أن ابن صاحبه مسافر، وأن الشخص الذي استأمنته ليغلق المحل محتال ذكي عرف كيف يلعب بعقلها، ويسرقها.