تداعيات اللون الأصفر

نجاة غفران


كنت أنظر من النافذة إليها وهي تعبث بشعرها، وتتحدث ضاحكة في الهاتف. أمامها واجهة محل الثريات الذي يقع في الطرف الثاني من الشارع. أمام منزلنا تماماً. شرفتي التي لا أفارقها طيلة اليوم تطل على المكان. لا تزعجني أبواق السيارات ولا ضجيج الشارع العريض ولا حركة المارة ولا أصوات الموسيقى المنبعثة من صف المطاعم والمحلات الذي يحتل طرفي شريان المدينة المكتظ هذا. تعودت على كل ذلك. وصار جزءاً من حياتي. بل كل حياتي.


راقبتها منذ غادرت مقهى الستاربكس المجاور لمحل الزهور. شعرها الطويل يتدلى خلف ظهرها، ويداها مشغولتان معاً. تحمل هاتفها بيسراها، وتتناول باليمنى كوب القهوة ذا الحجم الكبير الذي اشترته من المقهى. ما نكهته يا ترى؟ لا يمكنني أن أحزر. عادة أنا بارعة في هذه اللعبة. أراقب المارة وأخمن من أين أتوا، وإلى أين يذهبون، وكيف هي حياتهم، وما هي مشاغلهم؟


هي... لا أدري. لا أعرف كيف أصنفها. لفتت نظري أول ما غادرت المقهى. ثمة شيء ما في هيئتها شدني إليها. أهو البنطلون العسكري الكاجوال، أم القميص الصيفي الأصفر الذي ربطت طرفيه أسفل بطنها، أم النظارات الشمسية المرحة التي رفعتها فوق رأسها وحولتها إلى حاجز منع خصلاتها الطويلة الناعمة من العبث على جبينها؟! لا أدري... ملابسها الشبابية أعجبتني... ثرثرتها الضاحكة في الهاتف أثارت انتباهي. لم تعبأ بالمارة عندما تلفت بعضهم نحوها ورمقوها بصرامة. مرحها كان معدياً على ما يبدو؛ لأنني وجدت نفسي أبتسم ببلاهة وأنا أتابعها. رمقت صف الزهور المعروضة على الرصيف بإعجاب، ورشفت مرتين أو ثلاثاً قهوتها، ثم تلفتت حولها وخطت نحو صندوق المهملات، ورمت الكوب فيه، وتابعت طريقها وهي تواصل حديثها الغامض. ترى ماذا كانت تقول لمحدثها؟ ولِمَ تضحك؟ ولِمَ توقفت أمام محل الثريات؟


خطأ. المكان خطأ. والزمان خطأ. ولعلني شعرت بذلك قبلها... ولذلك انتبهت على غير عادتي لها... لها وحدها. وتجاهلت بقية المارة وضوضاء زحمة الظهيرة وزعيق أصحاب السيارات العالقة في الطريق. قميصها الأصفر الذي شدني من البداية ذكّرني بفستان قطني خفيف من نفس اللون.


فستان طالما أحببت ارتداءه؛ حينما كنت أقضي الساعات الطوال في المتنزه، أحادث أصدقائي وأنا أراقب صفوف البط العائم في البحيرة القريبة.
يومها أيضاً... كان الزمن خاطئاً. والمكان خاطئاً أيضاً. ولم يكن هناك من يراقبني...


بلعت ريقي وأنا أتابعها. لوت خصلة شعر طويلة حول سبابتها، وهي تحملق في الواجهة المثقلة بعشرات الثريات المتلألئة كالنجوم. رجعت برأسها للخلف وهي تنفجر ضاحكة... وانتهى الأمر في رمشة عين.
هيكل الحافلة التي فقد صاحبها السيطرة عليها اندفع بعنف نحو الفتاة، التي لم يكتب لها حتى أن تفهم ما يحصل. دوّى صوت ارتطام عنيف، والحافلة تكسر زجاج الواجهة وتمضي؛ لتصطدم بعمق المحل، مخلفة وراءها دماراً مريعاً، يذكر بمشاهد الحرب التي تبثها قنوات الأخبار.


ارتفع صراخ الناس وتجمع المارة والسائقون حول المكان، ودق قلبي بجنون، وتملكتني رجفة باردة وأليمة. رجفة شعرت بها في نصف جسدي الحي.
نصفي الآخر بقي متخشباً في ميتته، التي استمرت خمس سنوات.
خمس سنوات منذ كنت أنا أيضاً أقف... لا... بل أجلس في المكان الخطأ. في الزمن الخطأ.


يوم كنت أثرثر في الهاتف، ولا ألقي بالاً لعمال المتنزه الذين كانوا يقطعون شجرة ضخمة، سقط جانب منها على ساقي وظهري... وحوّلني إلى نصف إنسان، أتحرك كالآلة فوق كرسي حديدي، لا أغادره إلا عندما آوي إلى سريري.
نصف إنسان. تنهدت وأنا أمسح الدموع التي ضببت رؤيتي. ترى... هل صرخت مثلي عندما داهمها القدر؟


هل منحت فرصة ثانية للحياة... ولو بنصف جسد؟
طوقت صدري بذراعي، وبكيت طويلاً وأنا أتابع صف المحفات المغطاة بالكامل التي أخرجها رجال الإسعاف من ركام المحل.