مخيم اللاجئين السوريين في البقاع اللبناني صورة مأساوية عن تدهور الأوضاع، ووصولها إلى درجة مزرية. في زيارتي هذا الأسبوع للمخيم، فوجئت بعشرات الألوف من أطفال ونساء ورجال يعيشون تحت خط الفقر. آلاف يعانون الجوع والمرض وصعوبة الطقس، ولا يعلمون متى سينتهي هذا الكابوس؟ يعيشون على معونات متقطعة تصلهم من منظمات دولية وبعض المتبرعين. ويسكنون في خيام مؤقتة بأعداد كبيرة. أكثرهم قضوا أكثر من سنة هناك، فيما يعيش الأبناء من دون تعليم ولا مدارس. ألوفٌ حياتهم تنحصر في محاولة الحصول على غذاء يسدُّ جوع اليوم، وغداً قصة أخرى.
في حياتهم هذه لم يستسلموا، فبعضهم حوّل خيمته إلى فصل للتعليم، وهناك سيدات يخصصن بعضاً من وقتهن لتدريس الأطفال. وآخرون يعملون في المزارع القريبة من المخيم، ويحصلون على أجر بسيط، يساعدهم في حياتهم. ورغم ذلك يبتسمون، وتلمس كيف أن الإرادة والإيمان جعلا هذه الصعوبات مجرد كبوات بسيطة. والحياة تفرض شروطها، فمن الأشياء التي لفتتني، كيف أن التزاوج يحصل بين الأسر، فعائلة في هذا المخيم تكون مجاورة لعائلة أخرى في الخيمة، ويتم التعرف، وينتهي الأمر بزواج شاب من هذه العائلة بفتاة من العائلة الأخرى، وفي هذه الحالة ينشئون خيمة صغيرة ملاصقة لهم؛ لعدم وجود خيام شاغرة في المخيم، وهكذا تنشأ علاقة تراحم ومحبة من بين أزقة هذه المخيمات. وقد شهد هذا المخيم عدة زواجات وولادات لأطفال جدد. لكنهم محرومون من العناية الصحية والتغذية السليمة.
أطفال المخيم قصة أخرى يلعبون بأعداد كبيرة، ونشأت علاقة صداقة بين أبناء المخيم، وأصبح سكان المخيم عائلة واحدة، يعرفون بعضاً، ويسألون عن غياب أحدهم، ويساعدون الجائع بمشاركته لقمتهم. قيم الحياة ومعانيها تكون أكثر وضوحاً في هذه المجتمعات. فزيف المدن والرفاهية يزيله واقع صعوبة الحياة والجوع. تقول إحداهن نعم نعيش على أمل العودة يوماً ما إلى بيوتنا في سوريا. كنا نتابع الأخبار يوماً بعد يوم، وأُصبنا بحالة يأس نظراً لأن الشهور تمر، ونحن في الانتظار. واعتاد سكان المخيم ضجيج الأطفال، فهم لعدم وجود مدارس أو مراكز رعاية، يقضون معظم وقتهم في الأزقة بين المخيمات بأعداد كبيرة، ويلعبون، وتكون الأصوات عالية. ويعلق عبدالله، من سكان المخيم: في البداية كنا نتضايق من الأصوات العالية، وما تسببه من إزعاج، ولكننا الآن اعتدنا هذه الضوضاء، وأصبحنا نتأقلم معها.
وهناك سيدة تعمل في مزرعة مجاورة تقول إنها فقدت 36 شخصاً من عائلتها وأقربائها، وإنها هربت هي وأسرتها الباقية إلى لبنان، ولا تعلم عن البقية شيئاً. ورغم ذلك تبتسم وتقول أبنائي الخمسة معي في الخيمة، وهذا أهم شيء في حياتي وهم سعادتي. وأسألها عن تعليمهم؛ فتجيب: «لا توجد هنا مدارس، ولكن يتعلمون في إحدى الخيام، هناك سيدة تعلمهم. وإذا رجعنا إلى سوريا يكملون تعليمهم». إجابة تعيش الأمل رغم صعوبة الواقع.
تنظر لخارطة البقاع في لبنان، فتجد بقعاً متناثرة من المخيمات، ويبلغ حالياً عدد اللاجئين السوريين في لبنان أكثر من مليون شخص. وهو رقم هائل؛ إذ يعد أكبر عدد من اللاجئين في العالم قياساً إلى عدد سكانه. وتقول المفوضية العليا للاجئين إنها تسجل بشكل يومي 2500 لاجئ جديد أي أكثر من شخص واحد كل دقيقة.
الشيء المحزن أن الأطفال يشكلون نصف عدد اللاجئين. ومعظمهم يعيش من دون تعليم ولا رعاية صحية. والغريب أن معظم هؤلاء يعيشون في مخيمات غير رسمية، وهم يقيمون في مخيمات أنشئت على أراضٍ يملكها أفراد، وبالتالي فهم يدفعون إيجار مساحة الخيمة لصاحب الأرض. وتقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن هناك كثيراً من اللاجئين السوريين يرفضون التسجيل في قوائم الأمم المتحدة؛ خشية تسرب أسمائهم للحكومة السورية، واحتمال أن يتضرر من ذلك أقاربهم الذين مازالوا يعيشون داخل سوريا.
من المحزن أن يكون هذا واقع الحال العربي. شعوبه في مخيمات وقصصه دمار وخراب. الأنظمة العربية التي تضحي بمئات الألوف من أبنائها؛ من أجل شهوة السلطة ورغبة البقاء. واقع مخزٍ، ولابد أن المحكمة الجنائية الدولية تلعب دوراً في رصد هذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها ولو بعد حين. كل من تلوثت يده بالقتل وتشريد الناس وتدمير بيوتهم هو مجرم حرب تجب محاكمته.
ومن يرَ المخيمات يدركْ حجم المعاناة، التي يتحملها هؤلاء اللاجئون. وتقول منظمة العفو الدولية: إن حملة الأمم المتحدة ينقصها أكثر من مليار دولار. ويذكر أن الأمم المتحدة طلبت 4. 2 مليار دولار، لكنها تحصلت على أقل من خُمس تلك المبالغ.
أصبح المواطن العربي رقماً يضاف، سواء في عدد اللاجئين أو المصابين. وبات حلم الإنسان العربي أن يحصل فقط على قوت يومه. هذه الأنظمة التي صنعت الدمار لشعوبها بدل التنمية والرخاء والرفاهية. هذه الأنظمة التي سوف تحاسبها شعوبها؛ حتى وإن طال الزمن، قبل أن يحاسبها التاريخ.