الموهبة والحدس هما أساس التميز في أي مهنة يمكن للإنسان المتعلم مزاولتها، ففي الطب على سبيل المثال يتناقل الناس عن طبيب ما أنه ماهر و«شاطر» في حين يشتمون آخر، ويسمون سمعته بأقدح الأوصاف؛ ليتجنبه الناس ويمتنعوا عن ارتياد عيادته! الأول درس الطب وحمل أعلى الشهادات كما الآخر تماماً، لكن الطبيب الناجح اللامع هو الذي يستخدم حدسه وشعوره الداخلي أثناء استماعه بحرص لشكوى مريض، هذا الحدس يساعده في اكتشاف أن مشكلة مرضية ما قد يكون سببها دواء وُصف لعلاج مشكلة أخرى، وقد يكون سببها نفسياً في المقام الأول، لذا يتطلب الأمر منه الكثير من النقاش وطرح الأسئلة عما يدور في خلد المريض من أعراض والتباسات قد تداخلت عليه، وخفيت ظناً منه أن لا علاقة مباشرة لها بالشكوى سبب الزيارة! حدس الطبيب وهبة الله التي منحه إياها بالصبر وسبر أغوار عقلية المريض، ونفسيته وسائل تقوده بأمر الله إلى تحديد ماهية المرض ومن ثم تشخيصه، وبالتالي طرح عدة خيارات لعلاجه. قد يكون أولها الانصات والاهتمام.
في أحايين كثيرة المريض لا يجيد تحديد الأعراض التي يستدل بها على المشكلة، يعرف أن لديه ألماً ما بموضع ما لكنه لا يربطه بتوقيت أو طعام أو سلوك معين ربما تسهم جميعها أو أحدها في تهييج الألم، وهنا يجب أن يستنبط الطبيب الذكي اللماح بأسئلته الدقيقة جميع العوامل المساندة للمرض. بعضنا يعتقد أن كمية الأدوية دليل على أن الطبيب من ذوي الخبرة النادرة، وبعضنا يكثر من زيارة الأطباء ولا يلتزم بتناول أي دواء فقط؛ لأنه شعر بالراحة لمجرد الكلام والشكوى، وأحسب أن ميل الإنسان للشكوى والتذمر أمر فطري، ربما حدا ببعض الأطباء إلى عدم إظهار أي تعاطف، أو استعداد نفسي للإنصات، ولنا أن نتخيل كم من حالات تفاقمت، وازدادت سوءاً وقضت على أصحابها بناءً على تشخيص خاطئ! واحدة من الزميلات تقص عليّ قصة تناولها لعقار مخفّض لمستوى الكوليسترول في الدم؛ مما أثّر سلباً على المفاصل، ويؤثر تدريجياً على الذاكرة بتحويلها إلى شاشة كبيرة مشوّشة، وكلما زارت طبيبها المعالج يرفع لها الجرعة بحجة أن الكوليسترول لايزال مرتفعاً، حتى قررت وهي لا تدرك السبب إلى تغيير الطبيب، ففوجئت بأن للطبيب الجديد رأياً آخر تماماً، حيث أخبرها بأنها ليست بحاجة لكل هذه الأدوية وشرح لها المسألة بالتفصيل، وأوقف لها الجرعة وغيّر الدواء إلى آخر أخف آثاراً جانبية كنوع من الوقاية لا أكثر! تحكي لي القصة، وهي تقول كدتُ أقترب من عدم القدرة على المشي! أرجو أن يحرص الأطباء على تمرين وتطوير مهاراتهم النفسية وجهازهم الانفعالي العاطفي وذكائهم الاجتماعي مثلما يحرصون على شهادات الزمالة والبورد وعضوية المجالس الدولية الكبرى