أنا أموت في صيرورة اللحظة

سلمى الجابري

 

 

بعينٍ دامعة أتخبط مع الظلال، مع مرارة الأفكار، مع وحدة السهر، والأحلام المتعسرة، أشاهد في المرآة تكوين الدمعة، امتلاء العين بالماء، ثم في لحظة يبدأ السيلان الكبير، المشاعر تفيض، تسيل، تجري فوق وجنتيّ دون أن تتوقف، كنهرٍ يخشى من الجفاف؛ لذلك هو يركض بكل ما أوتي به من ماء.

ها أنا أتبدّل في لحظة بكاء، أستسلم لهذه المقدمة الفاخرة من التعب، أتكور حول أناي وأنتفض، صوتي يرتعش، الكلمات تختنق في فمي، أشعر بالوحدة كشارعٍ التف من حوله الظلام؛ فلا ضوء يهدهد له خوفه، ولا حتى عابرٍ يؤنس فراغه.

أنا أموت في صيرورة اللحظة، أكثر بكثير من كل ذكرى قد ترتطم بالذاكرة عنوة.

لم أكن أخشى الطيران، التحليق نحو المدى، فرد الأجنحة ثم النظر إلى الأسفل بفوقيّةٍ تتسم بالهروب، لم أكن أخشى الرحيل لو لم أحب.

لم أكن لأبحث عن منقذ، عن منفذ أسرب إليه المشاعر الفائضة، لم أكن لأستجدي السلام طالما لم أشعر بهذا الهوان.

كل الصور قد تصبح مشفّرة؛ حتى المشاهد قد يجتاحها الضباب، الرؤية تنعدم، حينما نحرض القلب على الغرام، ثم قبل الموت الأخير، نحترق بالغياب، نصاب بالفزع، نمارس الانتظار كعجوزٍ تنتظر عودة طفلها من الموت ولا تسأم.

كل هذا الانشقاق، من أجل حبٍ أوشك على الانتهاء.

أعتذر، لا يمكنني التوقف، على الأقل هذه المرّة؛ فكلما توقفت فقدت الكثير، وكما تعلم، كثيرةٌ هي هزائمي وما عدت قادرة على جرّها كلّها، أنفاسي لا تهدأ، الأرض من تحتي تنتفض، أم أنا التي أنتفض! الخطوة التي تدفعني للغياب، هي ذات الخطوة التي كانت تحرضني على الاقتراب منك، يا الله، خطوة واحدة لكنها أصبحت باتجاهاتٍ مختلفة.

لا بأس، سأمارس أخطائي، سأعيد تضخيم الندم، سأبحث عن سبب للبكاء، كي أتحجج به أمام علامات التعجب، وسأبكي كمن لم يبكِ قط، ثم سأبتسم، وكأني لم أعش شيئًا من هذه الخيبات.

العرائس التي كنتُ أحبها، عازفو الحب والكمان، هذا التيه الممتد كنهاية الحياة، كالانشقاق الذي يحيل كل الخيارات الممكنة إلى أنصاف حلول، إلى أنصاف شعور وأمل، لا أعلم كيف سيولد هذا النور من منتصف التيه، لكن لا بدّ له أن يحين؛ فالظلمة المفرطة بالحنين، سيجتاحها ضوء الحب.

لم أتخيل قط أن تنعدم الرؤية، أن تميل كلّ الميل إلى سواد، لا ألوانٍ ترى، ولا وجوهٍ تبتسم، لا شيء يُرى سوى البؤس الذي يجمع كل المحزونين على رغيف الاحتياج، أما العابرون فهم أفضل حالاً منّا؛ متخففون من ثقل المشاعر، ومن كثرة الانتظار.