الموناليزا في بيتنا

عبدالوهاب بن منصور


أذكر جيدا، وكان عمري تسع سنوات، حين عاد أبي من فرنسا بعد سنوات طويلة من غربته هناك، وهو يحمل معه لوحة مغلفة بالورق المقوى. فك خيوطها وعلقها في غرفة نومه. بعدها بساعتين فقط، بدأت معركة كلامية بين الوالدين، فلم تتقبل أمّي أن يضع زوجها صورة أنثى لا تعرف عنها شيئا في غرفة نومها، في حين ظل أبي محافظا على ابتسامته وحاول أن يخبرها أنها مجرد صورة مرسومة بيد شخص، وتباع في الأسواق لكنها صورة تسرّ الناظرين.. وبعد أخذ وردّ، وُضعت الصورة في غرفة الاستقبال.

وظلت هناك لسنوات عديد، وقد تكدس فوقها الغبار وخيوط العنكبوت، لأن أمّي لم تقترب منها أبداً، ولم تمسح عنها نوازل الزمن وظلت تنظر إليها كشريك وليس كلوحة تزين البيت.
تلك اللوحة كانت حديث كل زائر للبيت، وظلت لسنوات تثير فضول الجيران والأقارب، حتّى غلُب القول، أنها زوجة أبي الأوروبية التي تركها وراءه بفرنسا. ولم يكلف أبي نفسه عناء الرد على هذا الاتهام مكتفياً بالابتسام، كما هي عادته.


لا أنكر أنّي كنت أظل لساعات طويلة محدقاً إليها في لعبة طفولية. أنظر إليها مواجهاً، ثمّ من جنب ومن أسفل، وأحياناً من علٍ مستعيناً بكرسي، فأكتشف أنها تتبعني بنظرها الثاقب وابتسامتها الخفيفة، كأنها تتحداني أو تراقبني من خلف نافذة قريبة. ملأني حضورها، فكنت أرى عضلات وجهها بكل حركاتها عند الابتسام وعند العبوس.


بعد سبع سنوات من دخول تلك الصورة إلى بيتنا، وقد كنت أبدأ سنتي الأولى بالثانوية، عثرت بالصدفة على مجلة عربية لأكتشف حقيقتها. قرأت المقال المرافق للصورة، فاكتشفت أنها لوحة فنية وليست صورة فوتوغرافية، وأنها من بين أشهر اللوحات في العالم إن لم تكن أشهرها..


وفي عطلة الأسبوع عدت إلى البيت ومعي المجلة. فتحتها ووضعتها أمام أمّي التي اندهشت وراحت تجول ببصرها بين صورة المجلة وتلك المعلقة في غرفة الاستقبال، لكنها لم تقل شيئاً، بل انتظرت حتى أنير بصيرتها. وهو ما حاولت أن أفعله بكلمات بسيطة حتّى تفهم قصدي، وتفهم أنها ليست صورة فوتوغرافية إنما هي لوحة فنية رسمت بيد فنان لم يعد يعيش في هذا العالم. شعرت من خلال ابتسامتها التي ارتسمت على شفتيها، أنها فهمت المُهم من كلامي، الذي كان بالنسبة لها يعني أن الصورة لم تكن لامرأة معينة أو زوجة ثانية لأبي.


أمّا أبي، وبعد أن وضعت هو الآخر أمامه المجلّة، سألني مبتسماً إن كنت قد تعلمت شيئاً من اللوحة، فقد كان يراني أبحلق فيها لساعات، وأكد لي أن أهم شيء في اللوحة هي تجسيدها للجمع بين التضاد، كالضوء والظلام، الابتسام والعبوس.. واليوم، حين أقف أمام أية لوحة فنية فإنّي أرى في البدء الموناليزا.