الحَرْقة..

عبدالوهاب بن منصور


حضرت منذ أسبوع جنازة زميل، كان قد عمل معي أستاذاً للغة الفرنسية، في نفس المؤسسة التربوية الّتي كنت أديرها منذ سنوات. الجنازة تمّت بعد أسبوع كامل من انتظار وصول جثمانه من فرنسا. وحضرها عدد كبير من زملائه القدامى وأصدقائه، الذين تأثروا كثيراً لفقدانه، وتحسروا أكثر على الطريقة التي مات بها رغم إيمانهم الكبير بأن لا مفر من الأجل.


ذات صبيحة وصلتني ورقة مكتوبة بخط يده حملها إليّ أخوه الأصغر، فاعتقدت أنها شهادة مرضية ليبلغني أنّه مريض وسيتغيب عن العمل أيّاماً. لكني فوجئت لمّا فتحتها وقرأت مباشرة موضوعها. لقد قدّم استقالته على الرغم من أنّه أستاذ مرسم، وقد كافح كثيراً ليحصل على ذلك. فنسبة البطالة لا ينكرها أحد منذ بداية الألفية، والفوز بمنصب عمل يعدّ حلماً بعيد المنال.

حدثت الأخ عن الأسباب، لأن ما كان مكتوباً على الورقة لا يعدّ سبباً مقنعاً، فلا أحد يستقيل لأسباب شخصية. فهذه الكلمات تكتب لإخفاء السبب الحقيقي، أو حين لا نتجرأ أن نقول الحقيقة. لم يبدُ الأخ متأثرا باستقالة أخيه، بل قال لي بشيء من الفخر أنّ أخاه «احْرَق» مع بداية نهاية عطلة الأسبوع، والتي هي يومين كاملين.


تعجبت كثيراً من شخص مثقف وحامل لشهادة جامعية أن يخاطر بنفسه لأجل حلم قد يتحقق وقد لا يتحقق. فالحرقة كانت مرتبطة بأشخاص يعانون وضعاً اقتصادياً مزرياً، أو أشخاص يحلمون بحياة بطريقة أوروبية. ثم نسيت أمر الأستاذ بعد أسابيع فقط، حتّى يوم جنازته.


أخبرني بعض الزملاء الذين كانوا على تواصل معه، أنّه عانى كثيراً في إسبانيا قبل أن يصل إلى فرنسا، حين تكفّلت به أخت له لأكثر من سنة. ثم اضطر زوج أخته لطرده بعد أن صار عبئاً ثقيلاً عليه. تسكع كثيراً، ونام تحت الجسور وعند بعض الأصدقاء، ولم يجد عملاً؛ لأنّه لا يحمل وثائق الإقامة. ساءت صحته بفعل نقص التغذية، وبعوامل البرد وقلة النظافة. تكفّلت به جمعية محلية صغيرة، وحاولت تقديم المساعدة له. لكن الموت كان أسرع، واضطرت أخته أن تجمع قليلاً من المال لدفع تكاليف نقله إلى الوطن لدفنه.


كثير من دول أفريقيا، بما فيها دول المغرب العربي، تعرف هجرة واسعة لشبابها نحو أوروبا بطريقة غير شرعية، تُعرف منذ سنوات بالحرقة، عن طريق زوارق مطاطية لمواجهة مخاطر البحر، الذي يأخذ كل مرّة أرواحاً عديدة. والمشكلة هذه، تتفاقم يوماً بعد يوم، رغم كل محاولات التوعية، وسنّ القوانين الردعية. فالشاب يحلم بالحرقة، ولا يسمع إلا أصوات من هاجروا، وتمكنوا من تحسين أحوالهم المادية. وفي نفس الوقت لا يرى صور أولئك الذين انتهوا في مقابر مجهولة، أو في نعوش تعذر نقلها، لأنّهم تخلصوا من وثائق هويتهم، حتّى لا تتم إعادتهم.