طموح إنسان وعبقرية مكان .. القاهرة العشق الأزلي لآخر سلالة مماليك مصر الأمير نجيب شركس

لم يكن الطفل نجيب يدرك وهو في السادسة من عمره صعوبة أن يكون له منزل يطل على نيل القاهرة، حينما كان يتأمل وجهه على صفحة النهر ذهاباً وعودة في ضاحية الجيزة جنوبي العاصمة وهو ممسك بيد والده الثري حسن بك نجل عبد الله الكبير، ناظر الشؤون الخديوية، أثناء الذهاب إلى قصر المانسترلي الأثري التاريخي، ويتساءل بينه وبين نفسه: لماذا لا يكون لي قصر مطل على النيل مثل هذا.. وتمر الأيام ولا تأتي الرياح بما تشتهي السفن، وتطل ثورة يوليو 1952 على الطفل ليجد نفسه في أوروبا متنقلاً بين باريس وسويسرا مع والدته الفرنسية، بعد فرض الحراسة على أموال أسرته في الستينيات.. ومرت سنوات عديدة ليعود الطفل رجلاً كبيراً في مطلع الثمانينيات إلى مسقط رأسه، وقد نسي ما نسي من ذكريات الطفولة حلوها ومرها، لكن ذاكرته لم تنس المكان الذي ظل في مخيلته، ذاك القصر الذي كان يتمنى أن يمتلكه وهو صغير.
بين الذهاب والعودة.. والصبا والرجولة، تفاصيل كثيرة نتعرف إليها في لقاء حصري مع الأمير نجيب شركس آخر سلالة مماليك مصر، من داخل قصره في جزيرة الذهب الذي تحوطه المياه من كل الجهات.

حوار | مصطفى عبد العال 
تصوير |حامد كامل

 

 

 

’المكان اختارني قبل أن أختاره فلطالما حلمت بمكان يطل على النيل الذي عشت بالقرب منه في طفولتي‘


الأمير نجيب شركس

 


ما تعريفك لنفسك؟


موضوع تعريفك لنفسك سؤال صعب جداً، فالإنسان يحكي عن نفسه أو يُحكى عنه، لكن التعريف موضوع مختلف يحتاج إلى الدخول إلى أعماق الإنسان، وربما بحكم دراستي للتاريخ والأدب في سويسرا كونت رؤية عن قناعة شخصية بأنه يجب ألا تتحدث كثيراً عن نفسك ودع أعمالك وأفعالك شاهداً عليك. لكن التعريف البسيط المعني به نشأة الفرد هو ما يمكن البوح به، فقد نشأت في أسرة ثرية لأم فرنسية وأب من أصول مملوكية شركسية اسمه حسن عبد الله، كان يملك العديد من إسطبلات الخيل قبل قيام ثورة يوليو، وكان جدي لأبي عبد الله الكبير، ناظر الشؤون في عهد الخديوي سعيد باشا، في ذلك الوقت كنا نسكن في منزل العائلة بضاحية الجيزة، وكنت أذهب مع والدي لصلاة العصر في مسجد عتيق مقام بالقرب من النيل في حي الروضة، وعلى بعد أمتار كان بصري يقع على قصر المانسترلي، وكنت معجباً جداً بشكله وسط النيل، وربما راودني كثيراً حلم أن أعيش في داخله، أو أن يكون لي مثله.. هكذا كان طموح طفل حينذاك لا يدرك صعوبة ذلك.
وأضاف: والدي كان بطبيعته مسرفاً على نفسه، ولم يدخر مالاً، وعندما قامت الثورة تمّت مصادرة معظم ثروتنا، سواء أكانت أراضي أم عقارات، وما تبقى منها كان ملاذاً نحتمي به عندما قرر والدي السفر إلى أوروبا للعيش هناك مع أصدقاء ومعارف وأقارب، خاصة أن والدتي كانت فرنسية الأصل؛ ما شجعني على بقائي في فرنسا بعد وفاة والدي.


رؤية أسطورية


بعض أثرياء مصر في ذلك الوقت لم يكن لديهم مهن، ولم يكن عندهم حرص على تعليم الأبناء.
هذه رؤية أسطورية للأمور؛ لأن المال يحتاج إلى من يديره، سواء كان عقاراً أو أرضاً أو مصنعاً، وفي ذلك الوقت كان هناك العديد من رجال الصناعة والتجارة، حتى والدي كان يحب الخيل، وانتقل بها من الهواية إلى الأعمال والرعاية والاهتمام، فلا يوجد إنسان لا يقوم بعمل، سواء كان كبيراً أم صغيراً، وإن اختلفت التوجهات.


هل كنت تنتمي إلى من يديرون المال أم ينفقونه؟


لم تترك لي العائلة مالاً أنفق منه لدرجة البذخ، ولا ثروة أديرها وأحسن توجيهها؛ لأن والدي كان سخياً جداً، وأنفق ثروته في ممارسة هوايته. عموماً، الثروة المتبقية من هذا السخاء تم فرض الحراسة عليها، فعندما عدت من أوروبا وقابلت الخولي المسؤول عن مزرعة والدي ترحم عليه لما كان ينفقه بسخاء على من حوله، فوالدي لم يترك لي سوى سمعة نظيفة ودراسة جيدة ولائقة للتاريخ والأدب في سويسرا، ثم درست علوم الدبلوماسية في السوربون بحكم إقامتي مع والدتي الفرنسية.


بناء قصر داخل جزيرة وسط الماء لا تصلها وسيلة مواصلات سوى المركب، أليست الفكرة غريبة؟


أنا لم أختر هذا المكان، بل هو الذي اختارني، بمعنى عندما حضرت من أوروبا في بداية الثمانينيات كان لدي منزل في الزمالك، وكانت لدي رغبة في الانتقال إلى مكان هادئ خارج الازدحام السكاني في القاهرة، فكان اتجاهي مختلفاً عن الصفوة الآخرين الذين فضلوا العيش في رفاهية المدن الجديدة، وتركز بحثي في مكان يطل على النيل الذي عشت بالقرب منه في طفولتي، وتنقلت بالبحث في أماكن عدة تطل على النهر إلى أن تذكرت الأماكن التي كنت أزورها مع والدي حينما كنت صغيراً، خاصة قصر المانسترلي؛ نظراً إلى حبي للمباني التراثية الإسلامية، وكنت ألاحظ هذه الجزيرة المعروفة بجزيرة الذهب التي يصعب الوصول إليها إلا عن طريق النهر، لذا فهي مكان مثالي للهدوء والراحة، ومن أجل ذلك قررت اختيار هذا المكان بعيداً عن التلوث وازدحام المباني والأشياء الأخرى المزعجة.
يمكنك الاطلاع على قصر زهران قصر المناسبات الملكية الهاشمية بامتياز

 

’أتمنى أن يحقق ولديّ حلمهما كما حققت حلمي، وأن يشاركاني في هذا المكان الجميل‘


تلميذ المعماري العالمي حسن فتحي

 


كانت هناك خلافات حول أثرية القصر، خاصة مع صعوبة البناء بهذا النوع من الأحجار التي لا تتوافر فوق الجزيرة؟


بالفعل، كان هناك اعتقاد من شكل البناء بأنه أثري، وقامت لجنة متخصصة من هيئة الآثار المصرية بالبحث عن تاريخ البناء والملكية ونوع الحجر المستخدم، واكتشفت أن البناء بدأ في منتصف الثمانينيات وجميع الأحجار من الجبل تم نحتها على الطراز الإسلامي الذي اشتهر به العصر المملوكي، وقد واجهت صعوبات كثيرة في نقل هذه الأحجار عن طريق النهر لضخامتها، لكن العمال الذين شاركوا في البناء كانوا مهرة في النحت والتشييد تحت قيادة مقاول اسمه مصطفى حسن، كان تلميذاً للمعماري المصري العالمي حسن فتحي.
وأضاف البرنس نجيب: المدهش أنه توجد قصور كثيرة في مصر مبنية بأحدث طرز البناء، لكن بالنسبة إلي عندما عزمت على تشييد هذا القصر كنت أتساءل كيف سأختار من العمال الكثيرين ممن يستطيعون القيام بهذه الفنون في التشييد والبناء من دون اللجوء إلى تخطيط أو رسوم هندسية، ويكفي أن أوضح لك أن القصر الذي نجلس فيه الآن ويظهر وكأنه إحدى البنايات القديمة، تم تشييده بالكامل من دون اللجوء إلى مهندسين أو رسوم هندسية، وإنما أنجزته مجموعة من العمال المهرة لديهم موهبة في نحت الحجر من الجبل وتركيبه بشكل معماري جميل بلا تعقيدات.


قضيت جزءاً كبيراً من طفولتك وشبابك وسط الثقافة الأوروبية، هل انعكست على تصميم البناء؟


لم أتأثر بالثقافة الأوروبية لدرجة أن تطغى على حياتي، فقد درست وتعلمت في أوروبا وأنا أرتدي الجلباب، الإنسان يتعلم ويلاحظ ويفهم، فعندما التقيت العاملين في مجال البناء لاحظت أنهم يركبون الحجر وينحتون البروزات الموجودة فيه على ارتفاعات كبيرة حتى يصبح متوائماً مع مثيله في المكان المخصص له، وسألتهم أليس من الأفضل أن يتم نحت الحجر على الأرض قبل الصعود به، فكان جوابهم أن العمل على هذه القطع في مكانها بالأعلى يجعلهم يلاحظون الأبعاد المختلفة وأماكن الظل ودرجات اتجاهات الشمس وغيرها من تلك الرؤية، فأدركت أن هؤلاء العمال المهرة لديهم أمانة قبل المهارة، وهذا سبب نجاحهم.


عشرة آلاف متر مربع

 


كم مساحة المكان، وكيف جمعت القطع التراثية التي تزين القصر؟


تبلغ مساحة المكان الإجمالية نحو عشرة آلاف متر مربع، أغلبها حدائق وفراغات جمالية تحمل تماثيل ونوافير مياه وسلالم وأعمدة خشبية جمعت من أماكن متفرقة من الفيوم ومرسى مطروح والإسكندرية وغيرها من المدن والقرى من بيوت وقصور قديمة رغب أصحابها في بيع القديم من أجل التحديث، أو بحثاً عن المال، أو عدم وعي بقيمة ما يملكون، أيضاً هناك قطع أرابيسك ورخام وصدف من تجار في الحسين والغورية. كما اشتريت مقتنيات تاريخية عرضت في مزادات في أوروبا وجدت أنها تناسب البيت، وللعلم بعض المقتنيات دفعت فيها مبالغ كبيرة بهدف حمايتها أكثر من الاحتفاظ بها بوصفها قيمة.


كم تكلفة بناء قصر الذهب حتى الآن؟


صعب جداً أن تتحدث بلغة الأرقام في بناء بدأ من 25 سنة وما زال العمل فيه قائماً، وأذكر مقولة عندما تقابلت مع ملك المغرب الراحل الملك الحسن رحمه الله، قال نصيحة ما زلت أتذكرها، وهي، الذي يرغب في بناء قصر لا بد أن ينسى شيئين هما الوقت؛ أي فترة بنائه، والثاني المادة؛ أي التكاليف، لذلك فلو كنت استعنت بمهندس لبناء القصر وجلسنا نتحدث عن ميزانية ورسومات وتصميم وتكاليف وغيرها من تلك الأمور، بالطبع لرفضت كل شيء، لذا فأنا على قناعة بأن ما تم هو بفضل من الله وتوفيقه.
ما رأيك بالتعرف على ميناء العقير بالأحساء.. ميناء قديم شاهد على تاريخ السعودية

ʼالعائلة لم تترك لي مالاً أنفق منه لدرجة البذخ، ولا ثروة أديرها وأحسن توجيهها لأن والدي كان سخياً جداًʻ


قصة لطيفة

 


هل أنت متزوج، وهل تعيش أسرتك معك على الجزيرة؟


أنا لدي قصة لطيفة ربما تفهم ماذا تعني: «على هذه الشجرة الكبيرة عصافير كثيرة تعيش فيها، لو أزحت الشجرة، هل العصافير لن تجد حياة إطلاقاً؟ أم ربنا كريم يؤمن العيش لها وأنها ستجد شجرة أخرى للعيش فيها».
لقد تزوجت مرات عدة، ورزقت بولد ناظم شاه، درس تكنولوجيا المعلومات، ويعيش في باريس مع والدته، ولم يرغب في أن يعيش معي، وبالتالي لم أرغمه على تقبل فكرتي لا هو ولا شقيقته نور الشرف، التي تعيش مع والدتها في لندن، فالإنسان يفعل ما هو مناسب وأن يكون ضميرك هو الحاكم فقط، واسما ولدي وابنتي ليسا اسمين مملوكيين؛ لأن الأسماء المملوكية صعبة جداً، فهي مستقاة من اللغة الشركسية القوقازية، فهي بالفعل صعبة لدرجة أن الناس كانوا يسخرون من منطوقها مثل الأرجوز، لدرجة أنهم عندما تولوا الحكم في مصر غيروا الأسماء الخاصة بهم، مثل المنتصر بالله وسيف الدين وغيرهما.


ما سبب هجرة أبنائك للعيش بعيداً عن مصر وعدم مشاركتك حلم طفولتك؟


ربما لأنني لم أتزوج من مصرية، فكل زوجاتي أجنبيات، والدة ناظم فرنسية، ووالدة نور إيطالية، وعندما كانا صغيرين كانا سعدين بالعيش معي في الزمالك بالقاهرة، ثم سافرا إلى أوروبا كل مع والدته، فأنت لا تستطيع أن تجبر أحداً على أن يعيش حلمك أو يحقق طموحك، فكل إنسان يعيش نفسه، وأنا اخترت حلماً رأيت أنه جميل، لكن ربما يناسب عمري ولا يلائم من يذهب إلى المدرسة ويتعلم ويطلع على وسائل التواصل الحديثة، فأنا فضلت أن أعيش القديم، وسعيد بذلك، وهما ينظران إلى المستقبل، وهما سعيدان لأنني حققت حلمي. ولكن، لديهما ندم وحزن أننا لا نعيش الحلم ذاته معاً في المكان نفسه، لقد بقي القصر من دون كهرباء سنوات عدة حتى تم تقنين البناء، عانيت كثيراً بمفردي ولم أكن أرغب في أن يتحمل ولداي معي هذا العناء، لكني تحملت وتجملت بالصبر وربنا أكرمني.


استقبال الناس في القصر

 


هل فكرت في استثمار المكان لتعويض جزء من نفقات البناء؟


في بداية الأمر منذ سنوات، ظهر بعض المشاكل الإدارية والتخطيطية من قبل الدولة، وأُزيل بعض المساحة، وقد اتجهنا لوزارة الثقافة لدراسة الأمر، وقد عدّوه أثرياً كونه يحمل الطابع والطراز الأثري، على الرغم من أنه ليس كذلك؛ لأنه بناء جديد، لكن تشييده بهذه الطريقة جعلهم يقولون ذلك، وأبقت الدولة على الشكل والطراز والمبنى، وهو ما دفعني للتعبير عن شكري وامتناني للدولة بطريقة مختلفة، ولذلك فتحت القصر لاستقبال المصريين فيه بطريقة متفاعلة ومنظمة بيننا، بإقامة حفلات واستقبالات وضيافة، وهو مثل ما يحدث في الخارج، كل من جاء من كافة المناطق كان سعيداً.


ماذا تقول لولديك؟


أتمنى أن يحققا حلمهما كما حققت حلمي، وأن يشاركاني في هذا المكان الجميل كلما أتيحت لهما الفرصة.
يمكنك أيضاً الاطلاع على أشهر القصور الملكية البريطانية المفتوحة للجمهور والتي يمكن زيارتها