mena-gmtdmp

فادي بلهوان: الخط جزء من التكوين وليس مجرد زخرفة

في عالمٍ لا يهدأ، يبرزُ فادي بلهوان بوصفه «عقلاً، يحبُّ أن يمشي بخطواتٍ محسوبةٍ». هو يُحوِّل الفكرةَ الصغيرةَ إلى مشروعٍ كاملِ الملامح، ولا يتعاملُ مع التخطيطِ بوصفه مهمَّةً، بل بوصفه فناً، يحتاجُ إلى دقَّةٍ، ورؤيةٍ، ولمسةٍ من شغفٍ. يعرفُ كيف يلتقطُ التفاصيلَ التي يعبرُ فوقها الآخرون، ويُعيد ترتيبها، لتخدمَ هدفاً واضحاً، يصنعه بعنايةٍ. ومع كلِّ خطوةٍ يخطوها، يقتربُ من طموحٍ أكبر، وكأنَّما يرسمُ طريقه بقلمٍ، يعلمُ جيداً إلى أين يريدُ أن يصل. في هذا الحوارِ، يفتحُ الفنَّانُ فادي بلهوان أبوابَ عالمه الداخلي، ليُحدِّثنا عن رحلته مع الكلمةِ والخطِّ واللون، وعن فلسفته الفنيَّةِ التي تمزجُ الروحَ بالمعنى، والجمالَ بالشكل.

إعداد: عفت شهاب الدين 

كلمة سبقت اللون

الفلسفة الفنيَّةِ التي تمزجُ الروحَ بالمعنى


فادي بلهوان، هو فنَّانٌ لبناني، وُلِدَ في بيروت عامَ 1966، وحصلَ على شهادةِ إدارةِ الأعمال من الجامعةِ الأمريكيَّةِ في العاصمةِ American University of Beirut (AUB) عامَ 1988، وعلى الرغمِ من دراسته هذا التخصُّص إلا أنه اختارَ تالياً تكريسَ جزءٍ كبيرٍ من حياته للفن، خاصَّةً الرسمَ والكتابة، إذ كانا شغفَه منذ الصغر.


وتتميَّزُ أعمالُ بلهوان بأنها «فنٌّ بالكلمات»: من بعيدٍ، تبدو بوصفها تصاميمَ تشكيليَّةً، لكنْ عند الاقترابِ، نراها كلماتٍ مكتوبةً بعنايةٍ. هذه الكلماتُ غالباً ما تكون مأخوذةً من كتبٍ دينيَّةٍ، أو أدبيَّةٍ، أو فلسفيَّةٍ، ما يمنحُ اللوحةَ محتوى لغوياً وفكرياً، إضافةً إلى جماليَّةٍ بصريَّةٍ. عليه، يمكن القولُ:" إن بلهوان، يدمجُ بين الرسمِ التشكيلي، والكتابةِ (أو الخطِّ) حيث يستخدمُ الحرفَ عنصراً بصرياً، وليس فقط وسيطاً لنقلِ معنى ما."


وقد عرضَ فادي أعماله في مدنٍ ومعارضَ عدة، ما جعله من الأسماءِ البارزةِ بين الفنَّانين المعاصرين. والفنَّانُ، يجمعُ بين المحتوى اللغوي، والخطابِ البصري، أي أنه ليس خطَّاطاً بالمعنى التقليدي لكتابةِ نصوصٍ تقليديَّةٍ، إذ يُعيد استخدامَ الحرفِ والكتابةِ بوصفهما عنصراً فنياً في الرسم. وفي هذا المعنى، هو جزءٌ من التجديدِ المعاصرِ في التعبيرِ بالحرف، ودمجِ الخطِّ مع الألوانِ النابضةِ بالحياة حيث يتحوَّلُ الحرفُ إلى شكلٍ بصري، والكتابةُ إلى صورةٍ، والمعنى مع الجماليَّةِ يجتمعان.


عن البداياتِ، يقولُ فادي بلهوان في حديثه لـ «سيدتي»: «منذ طفولتي كنتُ مأخوذاً بالكلمةِ قبل اللون، وبالسردِ قبل الشكل. لاحقاً أدركتُ أن الكلمة، ليست مجرَّد وسيلةٍ للتعبير، وإنما مادةٌ، تُبنى منها عوالمُ كاملةٌ. الخطُّ العربي تحديداً جذبني، فهو فضاءٌ، يجمعُ بين القدسيَّةِ والجماليَّة، وبين الانسيابِ والقوَّة. لقد كان الأقربَ إلى وجداني، وإلى هويَّتي الثقافيَّة».


يُضيف: «أسلوبي، يقومُ على دمجِ الكلمةِ باللون، والمعنى بالشكل، لتتحوَّلَ اللوحةُ إلى نصٍّ بصري، يُقرأ بالعين، ويُسمَع بالصوتِ الداخلي للمتلقِّي. أنا أكتبُ بالعربيَّةِ والإنجليزيَّة، وأحياناً بلغاتٍ أخرى، وأنحتُ الكلماتِ داخل التكوين، لتتعايشَ الرسائلُ الصريحةُ مع الإيحاءاتِ المخفيَّة».

ما رأيك بالتعرف على المصممة العراقية هناء صادق تحوّل الحرف العربي إلى هوية في الأزياء 

رحلة شغف.. وليست مجرد مسيرة فنية

أسلوبي يقومُ على دمجِ الكلمةِ باللون والمعنى بالشكل

هي مسيرةُ شغفٍ طويلٍ، فيها تعبٌ، وصبرٌ، وتجاربُ، ونجاحاتٌ. رحلةُ بحثٍ مستمرٍّ عن المعنى، مع إيمانٍ بأن الفنَّ، ليس رفاهيَّةً، وإنما رسالةٌ، وأن الجمالَ قادرٌ على مداواةِ الروح، وإحياءِ الأمل، كما يُؤكِد فادي.


وعن الخطوطِ التي يستخدمها، ولأي أهدافٍ يُطوِّعها، يُشير الفنَّانُ إلى أنه «بين النسخِ والديواني والكوفي.. الخطُّ كركيزةٍ للتصميم. أستخدمُ مزيجاً من النسخِ، والديواني، والرقعةِ، والكوفي الحديث، وأحياناً أبتكرُ تبايناتٍ حرَّةً، تناسبُ الفكرة. الخطُّ عندي جزءٌ من التكوين، وليس زخرفةً فقط. إنه حاملٌ لدلالاتٍ ومعانٍ، تُعزِّز الموضوع. وفيما يخصُّ الخطَّ الأقربَ إلى قلبي، أنا أحبُّ الديواني والنسخ، لأنهما يحملان موسيقى داخليَّةً، وانسياباً، يسمحُ ببناءِ تراكيبَ معقَّدةٍ دون فقدانِ التناغم».
 

الفن يتغيّر والمبادئ لا تتبدّل

الخطُّ عندي جزءٌ من التكوين

يرى فادي أن الفنَّ، يتغيَّرُ مع الزمن. يشرحُ ذلك: «الفنُّ كائنٌ حي، يتطوَّرُ بتطوُّرِ الفنَّانِ والمجتمع. التجربةُ تُغيِّر اليدَ، والعينَ، والروح، أمَّا المبادئ التي لا تتغيَّر، فهي الصدقُ الفنِّي، واحترامُ النصِّ، وعدمُ المساومةِ على القيمةِ الفكريَّةِ للعمل. هي الأساسُ الذي يُبنى عليه أي فنٍّ حقيقي». ويُوضح: «ريشتي، هي وسيلتي للسفر، وبوَّابةٌ لعبورِ الضجيج. عندما أكتبُ، وأرسم، أدخلُ عالماً آخر، وكأنَّني أتحاورُ مع كلِّ كلمةٍ، ومع كلِّ خطٍّ، مبتعداً عن ضجيجِ العالم الخارجي». وحول كيفيَّةِ إيصالِ رسالته للمشاهد، يردُّ بلهوان: «أعتمدُ على التكوين، وعلى توازنِ اللونِ والخطِّ، وأترك مساحةً للتأويل. الصعوبةُ الحقيقيَّة، هي الوصولُ للحظةِ التي أشعرُ فيها بأن اللوحة، بدأت تتحدَّثُ، أو تنطقُ وحدها».


ويتابعُ: «من اللوحاتِ التي لا تُنسى بالنسبةِ لي، وأرتبطُ بها ارتباطاً خاصاً الثلاثيَّةُ الروحانيَّة: العشاءُ الأخير، وLight Over Light، وHe Will Heal You، لأنها تحملُ رسائلَ روحانيَّةً عميقةً، وتترك في كل مرَّةٍ أثراً خاصاً في داخلي».

ما رأيك بالاطلاع على متحف المستقبل يعكس جمالية فن الخط العربي 

الألوان النارية.. حرارة النص والروح

الألوانَ الدافئةَ حاضرةٌ بقوَّةٍ لأنها تُشبه حرارةَ النصوص

لدى بهلوان رؤيةٌ خاصَّةٌ للألوانِ المُستَخدمة، فهوى يرى أن «الألوانَ الدافئةَ حاضرةٌ بقوَّةٍ، لأنها تُشبه حرارةَ النصوص، والضوءَ الداخلي للإنسان، لكنَّها دائماً متوازنةٌ مع الأزرقِ، والذهبي، والأبيض». ويقولُ: «هنا يجبُ أن أشير إلى نقطةٍ مهمَّةٍ جداً، وهي أن الإبداعَ لا يجفُّ ما دام القلبُ حياً، لذا لا أخافُ تكرارَ نفسي. الفنَّانُ لا يجفُّ، لأنه يعيشُ، ويتأثَّرُ، ويقرأ، ويحبُّ، ويُصلِّي، وكلُّ ذلك يفتح أبواباً جديدةً للتجربة».
 

اللغة العربية.. موسيقى وبحر من الصور

الألوانَ الدافئةَ حاضرةٌ بقوَّةٍ لأنها تُشبه حرارةَ النصوص

يُعدُّ «يومُ اللغةِ العربيَّة» مناسبةً مهمَّةً جداً بالنسبةِ إلى بهلوان، وعليه يختتمُ حديثه إلينا برسالةٍ خاصٍّةٍ بهذا اليوم، يقولُ: «في يومِ اللغةِ العربيَّة، أقولُ: إنها لغةٌ موسيقيَّةٌ تصويريَّةٌ، تحملُ طبقاتٍ من العمق، وقادرةٌ على نقلِ الفلسفةِ، والمشاعرِ، والروحانيَّة. إنها لغةُ تاريخٍ من الشعرِ والبلاغة. عندي حلمٌ ثقافي، يجمعُ الخطَّ بالأدب، وأتمنَّى إطلاقَ مبادرةٍ فنيَّةٍ - ثقافيَّةٍ، تربطُ بين الخطِّ العربي، والأدبِ، والشعر، وتُعلِّم الأجيالَ كيف ترى الكلمةَ فناً، وكيف تُحافظ عليها عبر الإبداعِ لا التلقين».

اللغة العربية لغة تاريخٍ من الشعرِ