المستوى الأكاديمي والثقافي المتقدّم والنجاح المهني واستقلالية الفتاة المادية والسعي الحثيث إلى تحقيق الذات وكبر هامش الحرية الشخصية الذي بات يتمتع به الفرد، كلّها عوامل تفرض واقعاً جديداً على المجتمعات العربية، تتجلّى أبرز مظاهره في تأخر سنّ الزواج لدى كلّ من الجنسين. وبالتالي، بات فارق العمر بين الأهل والأبناء كبيراً، ممّا يطرح مجموعة من الأسئلة حول التناقضات والاختلافات في وجهات النظر وأسلوب الحياة ونمط العيش بين الجيلين.
ما هي انعكاسات كبر سنّ الأهل على الأطفال؟ وكيف يتعامل الأهل في ظلّ الفاصل الزمني الكبير الذي يمثل بينهم وبين أبنائهم؟ وما هو الأسلوب التربوي الأمثل الذي يجدر بالوالدين إتباعه بغية تفادي نشوء مشكلة «صراع الأجيال» بين الأسرة الواحدة؟ أسئلة حملتها «سيدتي» إلى الإختصاصية في علم النفس دارين فغالي، وعادت بالتحقيق التالي:
للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى الذهن أن فارق السنّ بين الأهل وأبنائهم يحتّم نشوء تباعد ونفور بين الطرفين، وأن مشكلة «صراع الأجيال» واقعة لا محالة! ربما يكون هذا الأمر صحيحاً، توضح فغالي، إذا لم يدرك الأهل الفوارق الدقيقة بين الجيلين، ولم يراعوا متطلبات أبنائهم الذين يعيشون في زمن يختلف بتفاصيله وتوجّهاته وحتى لغته وألعابه وأساليب الترفيه والتسلية فيه عمّا كان سائداً في السابق. قد يصعب على فئة من الأهل مجاراة أبنائهم، فيكتفون مثلاً بتوفير متطلبات الطفل المادية بدون مشاركته اهتماماته، كأن يحضر الأب ألعاباً متطورة لأبنائه أو كتباً وقصصاً كثيرة ويبقى بعيداً عن مشاركتهم في مطالعتها ومحاورتهم حول ما جاء فيها، لاعتقاده بأن دوره ينتهي عند هذا الحدّ أو لعجزه عن فهم بعض الألعاب الحديثة المحبّبة لهم أو لأنه بات يفتقد للصبر وطول الأناة بعد سنين طويلة من الجهد ومواجهة التحديات والضغوط. كما يغيب الحوار بين الطرفين عند هذه الفئة، لاسيما وأن بعض الأطفال يطرح الكثير من الأسئلة وينتظر إجابات شافية ومقنعة، إلا أنه يجابه امّا بتهرّب الأهل من الإجابة أو اختصارها إلى حدّ كبير.
حماية مفرطة
في المقابل، قد تلجأ فئة ثانية من الأهل إلى الإفراط في حماية ورعاية الطفل الذي لطالما شكّل حلماً بالنسبة إليها، امّا لشعورها بأنها قد تبتعد عنه في أي لحظة بسبب الموت أو المرض، فنجدها شديدة الحرص عليه، سواء في مجالات اللعب أو الاختلاط بغيره من الأطفال أو المرض أو التعرّض إلى أي تجربة مهما كان حجمها وأهميتها، فتحيطه من كل جانب، قاطعةً عليه الطريق أمام الإستطلاع والإكتشاف والغوص في ما يحيط به من أشياء وأماكن. وفي هذا الإطار، غالباً ما نلتقي بأمّ تهرع لالتقاط طفلها إذا ما تعثّر ووقع أرضاً، بدون أن تمنحه فرصة أخذ المبادرة والنهوض بنفسه، غير مدركة أنّها برعايتها المبالغ فيها قد تجعل منه طفلاً مدللاً وإتكالياً يفتقد الثقة بالنفس وينتظر دائماً من يبحث له عن الحلول المناسبة والإمساك بزمام الأمور بدلاً منه.
أزمات صحيّة
وبالطبع، ان الأهل المتقدّمين في السن أكثر عرضةً للأزمات الصحيّة، ممّا قد يقلب الأدوار فيصبحون في حاجة للرعاية والاهتمام أو ينشغلون بمعالجة أنفسهم، فيهملون طفلهم أو يقصّرون عن تلبية احتياجاته المادية والعاطفية والنفسية والتربوية.... وبالتالي، يصبح الأهل عبئاً ثقيلاً عوض أن يكونوا عوناً وسنداً داعماً يعتمد عليه الأبناء سواء في مرحلة الطفولة أو المراهقة، كما يمكن أن يعكسوا صورة لأهل منهكين نفسياً وصحياً ما يثير جواً من السلبية والتشاؤم، فينشأ الطفل حزيناً حاملاً للهموم والمسؤوليات، وقد يشعر بالذنب تجاههم اذ تراوده أفكار على نحو: لو لم أولد لما كانت والدتي مريضة، بينما يلهو أقرانه بفرح ويتمتعون بكل ما يوفر لهم طفولة سعيدة ومتفائلة.
ضغوط نفسية وتقلّبات مزاجية
وثمة عامل آخر قد يسيء إلى العلاقة بين الأهل والأبناء يتعلّق بالأم التي تقترب من بلوغ سن انقطاع الطمث أو أنها وصلت هذه المرحلة فعلياً، لما يرافقها من ضغوط نفسية وتقلّبات مزاجية وأعراض صحيّة، ما يجعلها غير قادرة على منح طفلها الرعاية والاهتمام اللازمين! فتفقد صبرها أمام أسئلته الكثيرة والمتكرّرة أو تعجز عن مجاراته في نشاطه البدني أو مساعدته في إتمام واجباته المدرسية، نظراً لما تشعر به من توتر وما يدور في رأسها من هواجس تقلقها وتثير عصبيتها.
إن تراكم الأعباء والمسؤوليات على كاهل الأهل طوال هذه السنوات بما تحمله من نجاحات وإخفاقات وتجارب كثيرة قد تجعل منهم اشخاصاً ملولين، فاقدين للحماس والمبادرة، معتبرين أن كلّ ما يمكن أن يفعلوه سبق أن قاموا به، وهم الآن أحوج للراحة والهدوء منهم إلى الرحلات والنشاطات والمغامرة، فيبادرون إلى حسم الأمر وإعطاء الطفل النتيجة النهائية لأي مغامرة أو تجربة ينوي أو يرغب في القيام بها، فيضيّعون عليه متعة الاكتشاف والغوص في معرفة ما يجهله. وهنا، لا بدّ من التشديد على ضرورة إفساح المجال أمام الطفل أو المراهق لاكتشاف عالمه وما يدور فيه من أمور وقضايا قد ينظر إليها الأهل على أنها لا تستحق العناء، في حين تشكل بالنسبة للطفل لغزاً يسعى إلى فك رموزه واكتشاف أسراره.
حريتي؟!
غالباً ما يشعر الأهل بأن حريتهم قد سُلبت منهم لدى الزواج، لاسيّما لدى أولئك الذين اعتادوا على العيش وفق أسلوب وجدول أعمال يومي صاخب ومتفلّت من المسؤوليّة لردح طويل من الزمن، ليجدوا أنفسهم أمام أعباء ومسؤوليات جديدة ما يلزمهم إلغاء أو تأجيل بعض ما اعتادوا عليه من هوايات وسلوكيات ونشاطات بما يتوافق مع وضعهم الجديد. ويؤدّي هذا الواقع الجديد بهم إلى الانفعال والتوتر أمام المسؤولية الجديدة المتمثّلة في تربية الطفل والاهتمام بمطالبه، مما ينعكس سلباً على طريقة تعاملهم مع أبنائهم، فيوجّهون اللوم إليهم ويلقون على مسامعهم كلمات العتب والحسرة على ما خسروه من حرية ونمط حياة، فيشعر الطفل بأنه طفل غير مرغوب فيه!
على المقلب الآخر...
رغم فارق السن بينهما، تحرص فئة ثالثة من الأهل على مواكبة أبنائها، فنجدها توظّف كل طاقاتها ومعرفتها وتجاربها في فهم عالم الأبناء بكل تفاصيله (الأسئلة، حب الاكتشاف والفضول، اللعب، الصداقات، الواجبات المدرسية، الهدايا والمكافآت والقيام بالرحلات وممارسة بعض الهوايات...)، حيث يسعون إلى الإستماع إليهم والإصغاء جيداً لما يطرحونه من تساؤلات وتعليقات ويناقشونهم في كل ما يجول في خاطرهم من أفكار أو ما يواجهونه من مشكلات وتجارب، في محاولة للتقرّب منهم ودعمهم وتثقيفهم. وممّا لا شك فيه أن الثقافة التربوية لدى الأهل تساهم بفعاليّة في التقليص من الهوّة الزمنية الفاصلة بين الجيلين والتي قد تترافق مع اختلافات في وجهات النظر ونمط العيش، فهم قادرون على الإمساك بزمام الأمور ولعب دور الموجّه والمرشد والصديق المقرّب المتفهم الذي يشارك الطفل اهتماماته كافة، لما يتمتعون به من نضج ووعي وخبرات. كما أن وجود طفل لوالدين قاربا خريف العمر ينتج جوّاً من الفرح والتجدّد، إذ يشكّل لهما هدفاً يسعيان إلى إرضائه وتوفير كل ما من شأنه أن يساهم في نجاحه وتألقه.
الحب وحده لا يكفي
إن مشاعر الأمومة والأبوة هي نفسها سواء شهدها الإنسان في سن مناسبة أو متأخرة نوعاً ما.لكن، الحب وحده لا يكفي في العملية التربوية، اذ من الهام أن يتمتع الوالدان بقدرة عالية على استيعاب الطفل ومجاراته والدخول إلى عالمه ومشاركته نشاطاته اليومية من لعب وتسلية وواجبات مدرسية، مع توجيهه وتربيته وغرس القيم وقواعد السلوك السليم والتصرف اللائق بما يتناسب وسنّه، بدون إرهاقه بمنحه كمّاً هائلاً من التعليمات والتوجيهات، وكأننا نختزل فيه خبرات سنين طويلة غافلين أنه ما يزال طفلاً صغيراً، وأنه علينا أن ندخل إلى عالمه لا أن ندعه يهجر طفولته ويدخل عالم الكبار بكل ما يحمله من تعقيدات ومشكلات ونضج، مايزال بعيداً عنه.
آباء صالحون رغم فارق السن
>تورد الإختصاصية في علم النفس دارين فغالي بعض الخطوات الهادفة إلى نسج علاقة سويّة بين الأهل المتقدّمين في السن وأبنائهم:
> الدخول إلى عالم الطفل والعمل حثيثاً على تفهّم حاجاته ومتطلباته في كل مرحلة من مراحله العمرية.
> الثقة التامة بأنّه يمكن للثنائي المتقدّم في السن أن يشكّل عائلة صالحة رغم فارق السن، وأن فرصة حقيقية ماتزال أمامه لإنجاح هذه العلاقة الأسرية.
> قبول الطفل بمميزاته وعيوبه واحترام خصوصيته في كل مراحل حياته، ومراعاة متطلبات عصره.
> تجنّب لفت انتباه الطفل إلى جهلهما بكل ما يطرأ على عالمه من جديد وتكنولوجيا وما إلى ذلك، والتأكيد على أنهما قادران على فهمه ومجاراته ومشاركته عالمه بثقة ونجاح، كي لا يعتقد أن أبويه عاجزان عن إدراك أو فهم ما يريد وما يفكر به أو أنهما غير جديرين بتوجيهه وتقديم النصائح إليه.
> عدم إنهاكه بكمّ كبير من المعلومات والإرشادات وكأنهما يريدان اختزال خبرة وتجارب سنين طويلة في طفل لم يتعدّ عمره بضع سنوات.
> قد لا يستسيغ الطفل مقارنة والديه بوالديّ رفاقه الأكثر شباباً ونشاطاً ومشاركة لأبنائهما، بحيث يجد والديه أكبر سناً ويقتربان من الشيخوخة ما يثير لديه بعض التساؤلات التي يجب على الأهل الإجابة عليها بوضوح تام، وذكر الأسباب وحسنات أن يكون لديه والدان يتمتعان بما يكفي من النضج والوعي والخبرات لتكوين أسرة سعيدة وناجحة.
لا تشكّكي في قدرة الأب على التعامل الصحيح مع الأولاد