كيف عالج الإسلام الهموم والأحزان؟

يقول الشيخ الدكتور طاهر بن محمد المجرشي، إمام وخطيب جامع الخراشي بالرياض، وأحد رجال التربية والتعليم لـ «سيدتي»:

إن الهم والغم والحزن الذي يصيب العبد في نفسه لهو من أعظم البلاءات التي تكفّر الذنوب، وتمحص الإيمان، والصبر والثبات على الابتلاء، وهو علامة الإيمان والصدق مع الله سبحانه وتعالى، وإن الدين الإسلامي القويم قد عالج هذا الداء بعلاج إلهي عظيم وهو كالآتي:

أولا: الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، والرضا بقضاء الله وقدره. يقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا» رواه مسلم.

إن عمل الرضا في النفس البشرية عمل عجيب؛ إذ إنه يذيب شتى أنواع الآلام والأحزان، الناتجة عن التعرض للمواقف والمشكلات، أو المصائب التي ربما تحدث للإنسان فتزيده اكتئابا، أو تظلم الحياة في عينيه، يقول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وأصل الرضا هنا هو صحة العقيدة في الله، فمن رضي بالله ربا وإلها ووحد عبوديته له سبحانه وحده فلم يشرك به شيئا، طهّر قلبه من خبائث الشركيات والتعلقات بغير الله، وهو ذاك الذي يهديه الله ويشرح صدره، قال الله سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}.

ثانيا: القناعة: وأقصد بها هنا معنى قد يخفى على كثير من الناس؛ وهو بينه وبين الرضا علاقة عموم وخصوص، فالقناعة هي قبول الحظ المقسوم للإنسان من الرزق والمال والأولاد والقوة والصحة والمتاع، يقول النبي صلى الله عليه وسلّم:«ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس» رواه مسلم.

وأثر القناعة كعلاج للهموم مهم جدا؛ إذ إن كل قنوع غير متشوف لما في أيدي الناس، وغير ساخط على حاله من الفقر أو الصحة أو غيره، قال الشافعي:

أمت مطامعي فأرحت نفسي   فإن النفس إن طمعت تهون

ثالثا: ذكر الله: قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.

ذلك أن الذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه في سيره، ومثله كمثل الزاد للمسافر تماما، فإذا نقص زاده وقل طعامه خارت قواه وضعفت جوارحه، فوجب عليه عندئذ أن يعود إلى التزود.

يقول ابن القيم رحمه الله: ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الصبح ثم يقعد يذكر الله سبحانه إلى أقرب من نصف النهار، وكان يقول: هذه غدوتي وإن لم أتغد لم أتقو ليومي.

ذلك فالذكر هو مكان التزود للسير في الطريق، وهو المنزلة التي يتردد عليها دائما أهل الإيمان والتقوى.

ومن أكرمه الله سبحانه بدوام الاتصال بذكره سبحانه فقد أكرمه بفتح الباب إليه والسماح له بالقرب منه، ومن عزله الله سبحانه عن ذكره فقد منعه عنه وأبعده عن طريقه.

وذكر الله سبحانه سلاح المؤمن في كل المواطن والمواقف والمشكلات والأزمات، وبه يدفع المؤمن عنه الأمراض، وتكشف الكربات، وتهون عليه المصائب.

والمؤمن الحق هو الذي يفزع إلى ذكر الله إذا نزل به بلاء أو مصيبة، ويلجأ إليه إذا دارت عليه دائرة أو حلت به نازلة.

وذكر الله سبحانه هو جنة المتقين، التي يفرون إليها إذا ضاق بهم سجن الدنيا، فترى الذاكر بجسده في الدنيا سجينا، لكنه بروحه وقلبه في الجنات مرفرفا فرحا مسرورا؛ ذلك أن ذكر الله  لمن أحبه وداوم عليه لا يدع قلب الإنسان الحزين إلا مسرورا، ولا يدع نفس المتألم إلا راضية سعيدة.

رابعا: الإيمان والعمل الصالح: لقد قرن الله كلا من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى؛ لرفع حالة الضيق المذكورة، وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي يخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين، فالاستقامة والعمل الصالح كالصلاة والصدقة؛ لهما تأثير عظيم على النفس «أرحنا بالصلاة يا بلال»، في عصورنا هذه نحن بحاجة إلى جهاد نفسي، وقناعة راكزة وإيمان راسخ.

ثم تحدث الشيخ الدكتور محمد جاد بن أحمد صالح المصري، المستشار الشرعي إمام وخطيب جامع أبي هريرة بالرياض، فقال:

يشتكي كثير من الناس من الهموم والأحزان دون سبب مباشر لهما، وربما بحث بعضهم عن علاج ذلك بتعاطي المسكرات أو المخدرات، أو بحث عنها بمشاهدة المسرحيات أو الأفلام أو المسلسلات، وربما بحث عنها بإشغال نفسه بالعمل أو بالرياضة أو بغير ذلك، ولا فرق في ذلك بين الأغنياء والفقراء، ولذا فإن نبينا صلى الله عليه وسلّم استعاذ منها فقال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن»، كما أرشد أصحابه بدعاء ما يزيلهما أو يخفف منهما حيث قال: «ما من عبد يصيبه هم ولا حزن فيقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانهما فرحا»، وأخبرهم أن الهم والحزن داء يخفف الذنوب، فقال: «ما يصيب المؤمن من هم ولا حزن ولا عجز ولا كسل إلا خفف الله عنه من خطاياه».

وقد استنبط العلماء من نصوص الكتاب والسنة جملة أمور تذهب الحزن أو تخففه:

 

أولا: تحقيق الإيمان بالله عز وجل، الإيمان المتضمن محبة الله ومحبة رسوله، وإفراد الله سبحانه وتعالى بالخوف والرجاء وتفويض الأمور إليه والاعتماد عليه وحده والوقوف عند حدوده، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}.

فمنبع القلق والهم والحزن الإشراك بالله تعالى والكفر به، وارتكاب ما يغضبه ونسيانه جل وعلا، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}، وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر عقوبة عاجلة، داعية له إلى التوبة، فإن مات مصرّا على الكفر والمعاصي فيدخل في قوله سبحانه: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

ثانيا: التحلي بالصبر عند المصائب، يقول النبي: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمنين».

ثالثا: أن يجعل المسلم همه الأكبر الآخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، وقال النبي: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له».

رابعا: المحافظة على الفرائض خصوصا الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، ويقول نبينا: «أرحنا بها يا بلال» ويقول نبينا: «وجعلت قرة عيني بالصلاة».

خامسا: الإكثار من ذكر الله تعالى، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، كأذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ والدخول والخروج.

سادسا: قراءة القرآن الكريم وتلاوته والاستماع له وتدبره، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

سابعا: النظر إلى نعم الله بعين الرضا، ومما يعين على ذلك أن ينظر العبد إلى من هو أقل منه منزلة في الدنيا، كما قال النبي: «انظروا إلى من هو أقل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإن ذلك أجدر من أن تزدروا نعمة الله عليكم».

ثامنا: النظر إلى المساحات البيضاء في الآخرين كقوله: «لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر».

تاسعا: الحرص على الجد والاجتهاد، وإشغال النفس بالأمور النافعة، والبعد عن الكسل الضار وعن التفكير في الماضي، وقول «لو إني فعلت كذا لكان كذا»، قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل».

عاشرا: الصدقة، فإنها دواء لكل داء، يقول الله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وقال: «داووا مرضاكم بالصدقة».

الحادي عشر: التجمل بخلق العفو والبعد عن الحقد، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.

قال الشافعي: لما عفوت ولم أحقد على أحد أرحت نفسي من هم العداوات.

الثاني عشر: البعد عن كثرة الجدال في الأمور التي لا تفيد، حيث قال نبينا: «أنا كفيل ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا»، فالجدال يورث الهم والحزن والفرقة والخلاف.

الثالث عشر: اختيار الرفقة الصالحة الطيبة؛ الذين يسيرون على منهج الله وسنة رسوله، والبعد عن أصدقاء السوء؛ الذين هم من أسباب الحزن والهم، كما قال تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

الرابع عشر: تأمل كتاب الله عز وجل، خصوصا قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}، {إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ},{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

وأخيرا فهذا بخصوص الهموم والأحزان الدنيوية والدائمة، أما أن يحمل المسلم همّ إخوانه ويحزن لحزنهم فهو أمر مطلوب، يدفعه إلى بذل الجهود للتخفيف عنهم، عملا بقول النبي: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، بشرط ألا يؤدي هذا الهم إلى هلاكه، كما قال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.