في قلب دبي النابض بالحياة، حيث يلتقي العالم ليحتفي بأحدث صيحات الإبداع والابتكار، يبرز "أسبوع دبي للتصميم" بوصفه واحداً من أهم المنصات العالمية التي تجمع المصممين والمفكرين وعشاق الفن. وفي خضم هذا الحدث العالمي، كان لـ"سيدتي" وقفة خاصة في حدثه الأبرز معرض "داون تاون ديزاين" وتحديداً في جناح "صمم في السعودية Designed in Saudi" الموجود، الذي شكل منارة للإبداع السعودي ومنصة لتقديم قصص فريدة ترويها منتجات تجمع بين أصالة التراث وجرأة الحداثة.
لم يكن الجناح مجرد مساحة لعرض المنتجات، بل كان بمنزلة خلية إبداع حية، تعكس الدعم الكبير والتمكين الذي يحظى به قطاع التصميم في المملكة العربية السعودية. تحت إشراف "هيئة فنون العمارة والتصميم"، قدم الجناح كوكبة من المصممين السعوديين، الذين حولوا موادهم الخام إلى قطع فنية تنطق بالهوية وتحاكي المستقبل. في هذه المادة الشاملة، تأخذكم "سيدتي" في جولة حصرية لفك رموز هذا الإبداع، والحديث مع العقول التي تقف خلفه؛ لنكتشف معاً كيف يروي التصميم السعودي قصصه الجديدة للعالم.
"صمم في السعودية".. أكثر من مجرد ختم
لم يعُد الإبداع السعودي مجرد جهود فردية، بل أصبح منظومة متكاملة تتجسد في مبادرة "صمم في السعودية". هذه المبادرة، كما بدت واضحة في أروقة الجناح، هي أكثر من مجرد شعار جذاب؛ إنها إستراتيجية وطنية طموحة تقودها هيئة فنون العمارة والتصميم.
في حديثنا مع عبد العزيز العندس، الرئيس التنفيذي لشركة لمبارت وأحد المشاركين البارزين، أوضح لنا جوهر هذه المبادرة. يؤكد العندس أن المبادرة تمثل "دعماً للمحتوى المحلي"، وهي عبارة عن "ختم يمنح للمنتجات المصممة في السعودية والمنتجة فيها". هذا الختم ليس مجرد علامة جودة، بل هو شهادة ميلاد لمنتج يحمل الهُوِيَّة السعودية، ويسهم في تعزيز الاقتصاد الإبداعي المحلي.
اللافت في المبادرة، كما شرح العندس، هو شموليتها؛ فهي "تمنح للشركات وللأفراد" على حدٍّ سواء، ما يفتح الباب واسعاً أمام كل مبدع سعودي، سواء كان يعمل ضمن مؤسسة كبيرة أو بوصفه مصمماً مستقلاً؛ ليحصل على الاعتراف والدعم اللازمين.
هذا التوجه الإستراتيجي يهدف إلى تمكين قطاع التصميم المحلي، وتطويره، وتعزيز بيئة تدعم نموه، مع طموح واضح لوضع المملكة بوصفها وجهة عالمية رائدة في مجال التصميم. إنها رسالة قوية مفادها أن المنتج السعودي قادر على المنافسة عالمياً ليس فقط بجودته، ولكن بقصته وأصالته.
ماذا لو تحولت "قواعد اللعبة" إلى تحفة فنية؟
في زاوية من الجناح، لفتت أنظارنا قطعة أثاث فريدة، طاولة ألعاب خشبية فاخرة تَجْمَعُ حولها عدداً من الزوار. هذه القطعة هي من إبداع شركة "لمبارت" التي نجحت في تحويل لعبة تقليدية إلى قطعة فنية تليق بأرقى المساحات.
تحدثنا إلى حسين صالح العندس، مالك شركة لمبارت، الذي لخص فلسفة شركته بعبارة بليغة: "رؤيتنا نحترم قواعد اللعبة، نصنع الفرق في شكلها وفخامتها". هذا بالضبط ما رأيناه؛ فالطاولة -التي بدت مخصصة للعبة "البلوت" الشهيرة- ليست مجرد طاولة لعب، بل هي قطعة أثاث فاخرة (Furniture) صُنعت بحرفية عالية، تدمج بين الخشب المصقول والتصميم العصري.
يضيف حسين العندس، معبراً عن امتنانه: "نشكر الحكومة والمملكة العربية السعودية على إتاحة هذه الفرصة في تمكين ودعم الشركات السعودية للحضور في معرض مثل هذا، متألق عالمياً ونقدر نسميه أيقونة عالمية في عالم الأثاث والفرنتشر".
من جهته، أشار شقيقه عبد العزيز العندس إلى أن "لمبارت جيمز أند مور" (Lumbart Games & More) هي إحدى الشركات "الحاصلة على هذا الختم"، في إشارة إلى ختم "صمم في السعودية". هذا يؤكد كيف أن المبادرة تدعم الابتكار حتى في المجالات غير التقليدية، فـ"لمبارت" لم تقدم مجرد أثاث، بل قدمت تجربة ترفيهية متكاملة بهُوِيَّة سعودية فاخرة.
كيف جسد مشروع "فاو" التاريخ في قطع من الخزف؟
"هذه القطعة بكل فخر صُممت في السعودية"، بهذه العبارة الواثقة، بدأت أمل البدنة، مؤسسة "مشروع فاو"، حديثها معنا وهي تحمل بين يديها وعاءً خزفياً ذا نقوش فريدة.
مشروع "فاو" هو تجسيد حي لقوة التصميم في سرد التاريخ. تشرح أمل أن المشروع هو "مشروع خزفي مستوحًى تقريباً من قرية الفاو التاريخية". وقرية الفاو، لمن لا يعرفها، هي إحدى أهم المدن الأثرية في المملكة، وكانت عاصمة لمملكة كندة، وتزخر بكنوز أثرية وتصاميم ونقوش تروي قصص حضارات غابرة.
هنا يكمن إبداع أمل وفريقها؛ فهم لم ينسخوا التاريخ، بل أعادوا تفسيره. تقول: "إحنا استلهمنا جميع النقوش والتصاميم والمستكشفات اللي موجودة في قرية الفاو التاريخية بالمملكة، استلهمناها وعكسناها على القطع الخزفية".
النتيجة؟ قطع خزفية تحمل روحاً عتيقة بلمسة عصرية، كل قطعة منها تحكي فصلاً من تاريخ "الفاو". الهدف، كما تؤكد أمل، هو "إحياء التراث بطريقة معاصرة، ونقدم التصاميم للعالمية إن شاء الله".
إن مشروع "فاو" يقدم نموذجاً ملهماً لكيفية تحويل التراث الثقافي الغني إلى منتج اقتصادي وإبداعي، منتج يحمل قصة، ويقدمها بفخر للعالم.
"نوات".. استدامة الهُوِيَّة الثقافية
"صمم في السعودية قاعدة تعطينا هذه الفرصة أن نسرد قصصنا للعالم أجمع". كانت هذه الكلمات العميقة هي الافتتاحية المثالية التي بدأنا بها جولتنا، ووجدنا صاحبتها نجود الغامدي، مصممة منتجات من "أستوديو منتج"؛ لنختتم بها جولتنا أيضاً.
تجسد نجود الغامدي الجيل الجديد من المصممين السعوديين الذين يمتلكون رؤية واضحة وفلسفة عميقة. تقف نجود بفخر أمام منتجها الرئيسي "نوات"، وهو قطعة خشبية مصممة ببراعة، تبدو بوصفها وعاءً عصرياً لتقديم التمر، لكنها في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير.
تشرح نجود فلسفة الأستوديو الخاص بها: "في أستوديو منتج، نركز على استدامة هُوِيَّتنا الثقافية بمنتجات حية، تستديمها وتحفظها كذلك من الاندثار". عبارة "منتجات حية" لفتت انتباهنا؛ فهي تعني أن المنتج لا يتوقف عند حدود الجمال، بل يمتد ليصبح جزءاً من حياة الناس اليومية، محافظاً على طقس ثقافي أصيل.
تصميم "نوات" هو مثال رائع على "التصميم السهل الممتنع"؛ فهو يعالج عادة يومية (تقديم التمر) ويحولها إلى تجربة جمالية ووظيفية تحترم الإرث الثقافي للضيافة السعودية، وتقدمه في قالب عصري يناسب نمط الحياة الحالي.
تابعوا المزيد: مصممون خليجيون من تشكيل يعيدون رسم الموروث بحس معاصر في أسبوع دبي للتصميم
نافذة على الإبداع.. ورسالة إلى العالم
لم تقتصر إبداعات جناح "صمم في السعودية" على ما ذكرناه فقط. فبينما كنا نجول؛ كانت أعيننا تلتقط تفاصيل أخرى تبرهن على ثراء وتنوع المشهد الإبداعي السعودي. شاهدنا مباخر (أو حوامل بخور) بتصاميم عصرية (Minimalist) تعيد تعريف هذا الموروث التقليدي، ورأينا قطع نسيج جدارية فاخرة (Tapestry) تحكي قصصاً من البيئة الصحراوية بألوان ترابية دافئة، بالإضافة إلى أطقم وأدوات لتحضير القهوة المختصة بتصاميم تجمع بين العملية والجمال.
كل قطعة في هذا الجناح كانت تحمل "ختم" المبادرة، وكل مصمم قابلناه كان يحمل شغفاً ورسالة.
تابع المزيد: الإبداع يتجلى في دبي... افتتاح داون تاون ديزاين يحتفي بروائع التصميم والديكور المعاصر
ختاماً
إن المشاركة السعودية اللافتة في "أسبوع دبي للتصميم" عبر جناح "صمم في السعودية" هي أكثر من مجرد حضور في حدث عالمي. إنها "بيان" ثقافي وإبداعي واثق. بيان يقول للعالم إن المملكة العربية السعودية ليست مجرد مستهلك للتصميم، بل هي منتج ومصدر أصيل له.
من "فاو" أمل البدنة الذي ينبش في عمق التاريخ، إلى "نوات" نجود الغامدي الذي يستشرف مستقبل الضيافة، ومروراً بفخامة "لمبارت" التي تعيد صياغة قواعد اللعب، يؤكد المصممون السعوديون أنهم جاهزون لسرد قصصهم وهُوِيَّتِهم بلغة عالمية مشتركة هي لغة "التصميم". وبكل فخر، يمكننا القول إن هذه المنتجات "صُممت في السعودية"، وهي الآن جاهزة لتجد مكانها في كل أنحاء العالم.
تابع المزيد: داون تاون ديزاين يعود إلى حي دبي للتصميم مسلطاً الضوء على التصميم المعاصر
