mena-gmtdmp

مهام لا تُحتمل خفتها

مها الأحمد 
مها الأحمد
مها الأحمد

عنوانُ هذا المقالِ مستوحى من روايةِ ميلان كونديرا "كائنٌ لا تُحتمل خفته". روايةٌ لم أكملها، ولا أعرفُ السبب! مع ذلك، لا أنوي أن أدعها دون استكمالٍ.

وضعتها أمامي، لتظلَّ في محيطِ نظري، لا لأُذكِّر نفسي بأنها لم تُعجبني، بل لأتذكَّرَ أنها من الكتبِ التي تستحقُّ فرصةً أخرى حقيقيَّةً، من تلك التي لا نحكمُ عليها من قراءةٍ عابرةٍ، واختبارٍ سريعٍ، بل نُؤجِّلها لأيَّامٍ خاصَّةٍ، ربما أثناء السفرِ مثلاً حين نكون أكثر تقبُّلاً، واستعداداً لتحويلِ كلِّ الأشياءِ العاديَّةِ، لتصبحَ أكثر جمالاً.

بعيداً عن كلِّ خططي البسيطةِ تجاه هذه الروايةِ فقد حملت لي اليوم رسالةً مختلفةً، وشكرتها عليها، بل وسأحبُّها حتى دون أن أُكمِلها، لأنها لعبت دورَ المرشدِ في لحظةٍ، لم أُدرِك فيها أنني في حاجةٍ إلى مرشدٍ مؤقَّتٍ، وربما كان تأثيره لحظياً، لكنَّه أيقظني.

فتحت الروايةَ، لكنَّني لم أستطع التركيز. الإزعاجاتُ كانت كثيرةً، هي من النوعِ الذي أُطلِقُ عليه "مهام صغيرة"، لكنَّ المفاجأة أنها لم تكن كذلك. كانت ذرَّاتٍ من الفوضى الثقيلةِ متنكِّرةً في هيئةِ أعمالٍ بسيطةٍ: اتِّصالٌ، رسالةٌ، ردٌّ، إجراءٌ... لا تستغرقُ دقائقَ، لكنْ لا يمكن ترتيبُ فوضاها بتنظيمِ وقتٍ، لأنها في الحقيقةِ السببُ الرئيسُ لاختلاله.

هي سلسلةٌ لا تنقطعُ. تتمدَّدُ ببطءٍ، وتغمرُ يومنا بالكاملِ فقط لأننا سمحنا لها بالدخولِ، لتجلسَ إلى جوارِ إخوتها من المهامِّ الأقلِّ قيمةً، تلك التي لا يُحقِّق اكتمالها إنجازاً حقيقياً كما نُوهِم أنفسنا.

نظنُّ أنها بلا ضررٍ، وطبيعيَّةٌ، فنغفلُ عن المساحاتِ التي تحتلُّها، لكنَّها تبدأ بالفراغ، ثم تقتحمُ الممتلئ حتى تغدو جسراً من الفوضى، يحجبُ عنَّا كلَّ ما هو جوهري ومهمٌّ.

نصبحُ بسببها أشخاصاً مشحونين بتفاصيلَ لا تنتهي، وبذاكرةٍ ممتلئةٍ، تُدرك كلَّ جزءٍ في اليوم بأذهانٍ مشتَّتةٍ.

نفقدُ معها المتعةَ، والشغفَ، وتصعبُ علينا رؤيةُ أحلامنا، والأصعبُ أن نكتشفها أصلاً.

نتحوَّلُ من كائنٍ حيّ حرٍّ إلى آخرَ مكبَّلٍ، يحملُ سلاسلَ غليظةً، تفصله عن المشروعاتِ الكبرى التي تليقُ به، والأحلامِ المُرحَّلةِ كلَّ عامٍ.

لأنه ببساطةٍ، لم يَعُد يملك وقته. كلُّ ثانيةٍ فيه مشغولةٌ بمهمَّةٍ صغيرةٍ، تتحرَّك، وتلوِّحُ له بنداءٍ جديدٍ، لا يتوقَّف.