صرختها الغاضبة أرعبتني، دسست الورقة التي كنت أتأملها تحت الوسادة، وهرعت إلى المطبخ، مررت يدا عجلى في الطريق على شعري وثيابي، ودلفت إلى الداخل وأنا أرتجف بصمت.
"هل علينا أن ننتظر سيادتك دهرا كاملا؟ اغسلي يديك، واجلسي".
بيض وطماطم، كالعادة، وبقايا خبز الغداء.
ما هذه الهيئة؟ يا للفظاعة! سأقص شعرها غدا، لا تقل شيئا، ابنتك صارت كالغولة.
وقفت غصة مرة في حلقي، وبذلت جهدا لأمسك دموعي، والدي لم ينبس بكلمة، واصل العبث بكسرة خبز أمامه.
جلست مطأطئة الرأس، ومدت يدها إلى الطبق، ومد أبي يده.
نظرت إلى الطعام، وتقلبت أمعائي، بيض وطماطم في الصباح، بيض وطماطم في المساء، تملكني الغثيان، وانتبهت إليَّ وصاحت بلهجة آمرة: "كلي.. برد الأكل بما يكفي..."
حاضر.
غمست كسرة خبز في الصحن البلاستيكي المربع، صحن بشع، لا يحمل رسما ولا زينة، أكواب الماء الطويلة المصنوعة من نفس المادة موزعة حولنا.
تخلصت من كل آنية أمي، قالت إنه يجوز ألا نستعمل أغراض ميتة، يمكن ذلك أن يجلب النحس لنا.
لم يقل لها والدي شيئا.
مضغت بصعوبة اللقمة التي دسستها قسرا في فمي، تكاثرت البقع المحمرة في رجلي وذراعي وظهري، أم سلمى رفيقتي الحميمة انتبهت للأمر، وسألتني عن أشياء كثيرة، قالت إن عليَّ أن أرى الطبيب، وأخضع لتحليلات معينة، ونصحتني بأن أتوقف عن تناول البيض، قد تكون لديَّ حساسية نحوه.
صمتُّ ولم أعدها بشيء، زوجة والدي لا تطبخ لنا غير البيض والطماطم.
"كلي!" أمرتني وهي تبلع بشهية طعامها "لا توجد فاكهة هذا المساء، أعطيتك آخر برتقالة بقيت في السلة".
نبرتها المتهمة أيقظتني من شرودي، لم تعطني شيئا، كيف تستطيع الكذب بهذه السهولة؟ نظرت لوالدي، ولم يبد عليه الاكتراث بما يحدث حول الطاولة، كان شاردا، يده تمتد في حركة آلية من الصحن إلى فمه، وعيناه لا تبارحان الطاولة.
حاولت أن أحذو حذوه، ينبغي ألا أثير غضبها الليلة.
غمست طرف خبز في المرق، لا يهم إن لم أشبع، سيشتري لي والدي شيئا في السيرك.
"نفد الشاي والسكر، عليك أن تعطيني المال لأشتري ما نحتاج له..."
هل أخبرها؟ ينبغي أن يفعل.
"ماذا؟ ألست جائعة؟ هل أكلت شيئا في المدرسة؟" سألت بارتياب، ولم أقوَ حتى على تحريك رأسي لأنفي الأمر، تخيفني عندما تحدق فيَّ بهذه القسوة.
"ما بك لا تأكلين إذن؟"
نظرت ثانية لوالدي، رفع عينيه هذه المرة، وبدا ضعيفا... مثلي.
ترقرق الدمع في عيني، ولم أحدهما عنه.
جاء صباحا يوقظني ويقبلني، "كل عام وأنت بخير يا حبيبتي.. سنذهب للسيرك هذا المساء.. سنستمتع كثيرا، انظري، حصلت على برنامج السهرة، هناك ساحر وبهلوان وراقصون وقطط وأحصنة وألعاب في الهواء. ستعجبك. أعدك..."
صرخت وحضنته، أخيرا... تذكر عيد ميلادي، نسيه العام الماضي، والعام الذي قبله.
"سنمرح نحن الثلاثة..."
ليته ما قالها، غادر الغرفة وتركني أحملق بحزن في الفراغ، «نحن الثلاثة»، لن نمرح بالتأكيد.
لم تقل لي شيئا على مائدة الفطور، رافقني إلى الباب حين نهضت لأخرج، وهمس في أذني "إنها لا تعلم شيئا. سأخبرها في المساء، وسنخرج بعد العشاء".
هل أخبرها؟
هرب من عيني ومد يده للصحن، انتبهت وكأنما كنت في دنيا ثانية، زوجته تصرخ في وجهي: "هل صرت صماء؟ أسألك ما بك؟ لماذا لا تأكلين؟".
تخلصت من كسرة الخبز العالقة في يدي، وصحت بدوري: "لأنني لا أشعر برغبة في الطعام، لا أدري ما بي، لست على ما يرام"
لمعت عيناها، وسألت: "هل أنت مريضة؟"
"نعم.. نعم"
دفعت الكرسي ووقفت، وصاحت بنبرة انتصار في وجه والدي: «هل سمعت؟ ابنتك مريضة ولا مجال لخروجها، وفر نقودك، أو بالأحرى... هاتها»، البيت بحاجة لأغراض أهم من التسلية الفارغة، هات النقود...