إلى البرازيل.. كرنفال الجنون


في الرحلة الطويلة والشاهقة إلى بلاد الكرنفال - البرازيل، كانت المسافة من بيروت إلى مدينة ريو دي جينيرو غير محددة وغير متوقعة بالنسبة لي، ذلك أنني لم أعتد على سلوك تلك المطارات والأماكن ومحطات الترانزيت والفنادق، وسوى ذلك من المحطات المفاجئة.

آلاف الأميال، ومطارات كثيرة، ووقت واسع تتضاعف ساعاته كلما توغلت الطائرة في المسافة والزمن.

ليلتان في السماء - في الجو، وليل البلاد البعيدة يرتسم في أفق المخيلة، التي ذهبت ووصلت إلى البرازيل قبل وصول صاحبها.

بعد عذاب الطيران والتنقل والأميال والتعب، حطت طائرتنا في مطار ريو دي جينيرو، وخرجنا وخرجت مذهولاً رافع القلب شاخصاً في كل الاتجاهات. فقد كنت قرأت كثيراً عن تلك البلاد، عن شعب هذا البلد وعاداته وطقوسه، ولم يكن باستطاعتي إلا الذهاب مع خيالي إلى الواقع الجديد. أمكنة تشبه بلادي لكنها تحتوي ما لا تحتوي بلادي.

سعادة هائلة حلت بي، ومناخ فرح ارتسم في مساحة إقامتي في تلك المدينة المجنونة، التي تفوقت على جنون مجنون ليلى.

سعادة لا توصف، ولا يمكن حتى الآن وصفها، ذلك أنها تشبه المستحيل، تكاد تكون تلك اللحظة - اللحظات التي عشتها في ريو دي جينيرو من صنع الغياهب، وربما كانت سراباً، فالذي يعيش هناك في تلك المدينة الوارفة على غسق العمر وبحر الجمال والأنوثة، المدينة التي تحتل قلبك قبل أن يلمسها، الذي يعيش هناك لابد أنه كائن مختلف عن سائر البشر، وتمثال الريو شاهد على هذا العصف الجميل.

لم أشبع منك يا ريو، وقصائد شاهدة على جريان أيامك في عروقي. من اللحظة الأولى التي وطئت فيها أرض بلاد البن والقهوة اللذيذة، شعرت بقوة العذاب وجماله وعذوبته، وتحسست معنى الإقامة في الوجود، ولم يكن بوسعي إلا كتاب شعر كامل ملأته البرازيل. لقد غرفت منها وغرفت مني «اغترفنا» وكأننا أنا والبرازيل: مدينة واحدة أو رجل واحد.

من اليوم الأول في البرازيل لاحت بشائر كتابي الشعري، الذي أسميته «مدن وشيكة»، كل ما كتبته في «مدن وشيكة» هو نتاج إحساس فوار صنعته بلاد الكرنفال.

وفي يوم الكرنفال العظيم، خصت ريو بالعالم، حضر العالم كله إلى هناك، إلى حيث الكرنفال يعلن أنوثة العالم.

جنون البشر في كرنفال الريو لا يشبه إلا جنونهم، والنساء فيه يرسمن خطوات الموت اليومي ويتابعن سيرهن نحو الهاوية البيضاء. جنون يغطي الجنون بأسره، والمدينة تلمع وتتأهب لاستقبال الأجساد الأبنوسية الصامدة بوجه الزمن. أجساد لا يهزها الهرم، وصبايا وقفن تحت مظلاتهن يبردن مداورة وجمالهن يلمع مثل برق مفاجئ.

ماذا أقول يا ريو، ماذا أقول يا البرازيل، أقول وأكرر ما قلته في كتابي «مدن وشيكة»، وكأنني الآن هناك في «بارنا» أو في «لوندرينا» أو في «بورتا الليغري» وسواها من المدن. الآن أتذكر وأكرر:

إن كنت في ريو دي جنيرو

لن تحمل غير الاعتراف وابتسامات أثرية

لترسو تنهداتك

على ساحلي أناقتها

لتصير محاولة دائمة تحت مطر الحب.

 

في البرازيل، وتحديداً في الناحية الشرقية من الريو، لا تحتاج إلى نظرك، فالمبصرون والعميان يعيشون في رفاهية واحدة، كل شيء يدلك على قلبك وحنانك، بياض الأبنية يمسكك من يدك ويأخذك إلى حيث تشاء، إلى حيث تكمن الأخطاء الصحيحة الساحرة.

وإذا قررت العودة والخروج من ذلك النفق الرائع، من تلك البلاد الملتهبة المشعة، ستشعر أنك خسرت كل شيء، وأن غيابك عن تلك البلاد هو الموت والغربة والعذاب الضاري.

فماذا تفعل؟

 

 

 

للتواصل مع الكاتب اسماعيل فقيه  [email protected]