عن جدتي أخذتُ الدرسَ الأولَ في التفاؤل، والتطلّع أبداً الى مصدر شروق الشمس لا غروبها.
وكانت، رحمها الله، على علاقة طيّبة بالطبيعة، وبكل ما تحوي من مخلوقات صغيرة أو كبيرة؛ ومنها واحدة ظلّت الأقرب إليها وتدعوها "بشّورة".
<<<
والبَشُّورةُ» فراشةٌ صغيرة، وتأتي من حيث لا نعلم؛ وكانت ترى في حضورها البشارة، أي الخَبَرَ السعيد.
وظلَّتْ صديقتَها.
<<<
وكانت تلفتُ انتباهي، كلّما حطّت فراشَتُها البيضاء على زجاج النافذة. وتَهتِف: أُنظري بشّورَة.
وكنتُ أفهم، ولا أرى حاجةً لسؤالها عن معنى التَسمية، أو عن السبب في إشاعةِ البهجة والتفاؤل في الجوَ.
<<<
ولأن الإنسانَ يتعلّمُ بالتمثُّل والإقتداء، فقد وجدتُني أنقلُ عنها دروساً كثيرة، وأحفظُ منها الأمثالَ الشعبية؛ وهي في نظري، كنوزٌ لغوية، وتخرجُ من تجاويف الوعي كلما دعت الحاجة، فتفرّجُ الكربةَ وتجلو الغُمَّة.
<<<
وقد حضر طيفُ الجدّة معي، في صبيحة ذلك النهار، وأنا أقفُ على عتبة دارنا المحروقة، في الثاني من آب، صيف 1982؛ إبّان الإجتياح الإسرائيلي للعاصمة، بيروت.
كان الدخان يتصاعد من قلب الدار، ويُغشّي أعينَنا، ولا نعود نُبصِرُ شيئا ما عدا السواد.
ولكن طيفَ الجدّة الذي حضر معنا، أشارَ الى بابٍ جانبي، وهتفَ: أنظري، البشّورة.
<<<
وكان زجاجُ الباب قد تحطّم، وبقي متماكساً بفضل غشاءٍ لاصقٍ يسنُده من الداخل. وبدا الحطامُ على شكل فراشةٍ عملاقة... واعتبرتُها رسالةَ التفاؤلِ التي أفهمُها وأتشبَّثُ بها دائماً، وحتى في أحلكِ الأوقات.
<<<
وعندما استكانتِ الحربُ، وأعدْنا ترميمَ الدار، طلبتُ من النجّارِ أنْ يُحيط تلك «الفراشة» بإطارٍ يحفظُها ويُبقيها، علامةً عجيبة، ورسالةً تُذكِّر بطائر «الفينيق» الذي ينهضُ دائماً من رمادِ حرائقه.
<<<
لكنَّ التفاؤلَ كان دائماً رفيقَ دربي؛ وتعلّمته من أساتذة تدرّبتُ على أيديهم في العملِ كما في العلم.
ومن أشدِّهم تأثيراً عليّ بنزعتها التفاؤلية الأديبة الرائدة «إدفيك جريديني شيبوب». وكانت في خمسينات القرن الماضي تُمسك بناصية القلم والمذياع. وتبثُّ من خلال مقالاتِها في مجلة «صوت المرأة» رسائلَ التفاؤلِ وحبّ الحياة.
<<<
ومن ثمَّ انتقلتُ الى العمل في مجلّة «الصياد» الأسبوعية، وكان مؤسِّسها، ورئيسُ تحريرها الأستاذ «سعيد فريحة» صاحب مدرسة التفاؤل بامتياز؛ حتى إذا غضبَ من أحد الزملاء كان يُطلقُ عليه أسوأَ ألقابه: المتشائم... ويدعونا لأن نتطلّعَ دائماً صوبَ الوجهِ المشرقِ من الوجود؛ ويُغمّسُ قلمَهُ بالنكتةِ الساخرة، والتي حسبَ قوله: «قد تجرحُ إنما لا تُسيلُ الدماء».
<<<
وبعدما غصتُ في معنى الفلسفة، وقرأتُ لبعضِ أئمتِها، أدركتُ بأن المرءَ لا يولد وفي فمه ملعقةٌ من تفاؤلٍ أو تشاؤم؛ بل هو يكتسبُ ذلك من خلال سعيه واجتهاده؛ كما من تمرّسه بأمور الدنيا وسلوكِه كفردٍ وسط الجماعة.
<<<
في المرحلة الراهنة من مسيرتي الأدبية والإنسانية، أجدُ لديّ مكتسباتٍ متنوّعة، وهي إمّا ثمارُ خبرةٍ وممارسة، أو نتيجةُ تأمّلات؛ وتتقدّمُها جميعاً نزعتي المتفائلة، والإيجابية، والسعي دائماً لاتّباعِ خطوطِ النورِ بَدَلَ السيرِ في الظلام.
<<<
في بعض اللقاءات الصحفية، أو الندوات الأدبية، كثيراً ما يُوجّهُ إليّ السؤال: وهل أنتِ متفائلة؟... وغالباً ما كان يُطرحُ في زمن الحرب، وعندما كانت الأجواء متجهِّمة ومزروعة بالقلق على المصير.
وكان جوابي دائماً، ولا يزال: نعم، سأبقى متفائلة ولعدّةِ أسباب، أوّلُها وأهمُّها اني أمٌّ (وقد أصبحتُ جدّة). أي اني أنجبتُ للحياة البنين والبنات، وهم يواصلون مع أولادهم، خطَّها للأزمنة الآتية.
ومَن كانت تلك حالُه كيف يسعُه ان ينظرَ الى الجانب المظلم من الوجود؟
