التاريخ: أكاذيب الغابرين على المعاصرين

   التاريخ: أكاذيب الغابرين على المعاصرين

إحدى مآزق العقل العربي أنه عقل مشدود بالحبل الوهمي إلى ماضيه، رهين في محبس جذوره، فلا ينفك من هذه الاشتباكات إلا على جسر من الخيانة والخروج من دائرة التبعية التي لا يحبذ التمرد عليها

ولكن هذا التاريخ –الذي يأسرنا بأكاذيبه– ماذا عنه، كيف كتب، وما مدى صدقيته؟

يقول الدكتور الباحث ديو بولد دالين صاحب كتاب «مناهج البحث في التربية وعلم النفس» عن التاريخ: «لم يتذكر أولئك الذين شهدوا «الماضي» سوى جزء منه، ولم يسجلوا سوى جزء مما تذكروه، ولم يبق مع الزمن سوى جزء مما سجلوه، ولم يسترْع نظر المؤرخين سوى جزء مما بقي مع الزمن. وجزء فقط مما استرعى نظر المؤرخين صادق، وما أمكن فهمه كان جزءًا فقط مما هو صادق. وجزء فقط مما أمكن فهمه يمكن للمؤرخ تفسيره أو روايته... ص79

هذه وجهة نظر أحد أهم الباحثين والمشتغلين في البحث عن التاريخ. إنه دوائر ضيقة، يأخذ بعضها في الصغر والانكماش؛ حتى تصير نقطة ضيقة تحكم رقاب البشر الذين يستحوذ عليهم التاريخ

أكثر من ذلك، يروي المؤرخ الكبير تونبي أنه عندما هم بكتابة «تاريخ بريطانيا» أحضر أقلامه وأوراقه، وعند شروعه في الكتابة رأى من نافذة منزله شخصين يتعاركان بالأيدي، وحولهما أمة من الناس ما بين متفرج ومتدخل في العراك، فانطلق مؤرخنا الكبير ليرى ما يحدث، ويستفسر عن السبب المؤدي إلى تلك الضجة والعراك، فأخذ يسأل عن أصل المشكلة وأسبابها، فسمع عشرات الروايات في «تشابك الأيدي بين شخصين»، فأسف على عمله، وشعر بصعوبته؛ فهذا حدث ماثل أمامه، وقع قبل لحظات معدودة وأمام عينيه، ولم يستطع أن يقف على أسبابه ودوافعه الحقيقية، فكيف يمكنه كتابة التاريخ بأحداثه التي مرت عليها السنوات والقرون

ولك عزيزي القارئ في تفجيرات أبراج أميركا الآثمة المثل الحسن؛ إذ إنه ليس أكثر من حدث كوني حصل أمام أعين الناس، ومع هذا مازال الفاعل متعددًا، والمجرم مختلف عليه، والمحطم سؤال لم يستقر على إجابة صحيحة خضراء

إنه من المضحك أن تحكمنا خطرات مؤرخين، وهواجس روائيين، كتبوا ما أرادوا؛ لتصبح فيما بعد مرجعاً مؤكداً، وهذه معضلة عربية كبيرة. إنني أحيانًا أتصور أن كاتبي التاريخ ومعدي السير لو علموا أن هناك أممًا من الناس ستأخذ ما كتبوه على سبيل الجدية والاحترام والتصديق والتطبيق لاعتنوا بما كتبوه، ولنقحوا ما سجلوه، ولحرصوا أن يكون خالصًا لوجه الصدق!

إن التاريخ سؤال شائك، وغصة في حلوق الآكلين للحضارة، وحجر أحرش ضخم يعيق انطلاق السائرين؛

لقد صدق الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي عندما قال

وما كتب التاريخ في «جل» ما روت

                               لقرَّائها إلا حديث ملفق

نظرنا بأمر الحاضرين فرابنا

                 فكيف بأمر الغابرين نصدق؟

إنه استفهام زهاوي موجع، نحن نرى الأشياء التي أمامنا كيف تؤرخ، وبأي لغة تكتب، وبأي حبر تسطر.. ومع هذا نصدق التاريخ قائلين: «الذي ليس له أول ليس له آخر»، و«إنا أمة ذات تراث بعيد وحضارة عريقة».. وهذا حالنا.. في المقابل أمة حاليًا تفتقر إلى تاريخ، ولديها أنيميا في التراث، ومع هذا سيطرت على الجغرافيا واستحوذت على الحضارة

فيا رب.. اجعلنا مثل اليابان، ولا تجعلنا مثل مصر ذات أقدم حضارة وأكبر