أطلت التحديق في وجهها، لا لأني أراها للمرة الأولى، بل لأن تعبير الألم على وجهها يبلغ من العمق والبلاغة في الإفصاح عن نفسه حدا لم أشاهده من قبل.
قالت:
- أستاذ...، لا تؤاخذني على أني أقحمت نفسي على مكتبك بهذا الشكل، فأنا لم أستطع الوصول إلى أي من أرقام تليفوناتك.
- امتزج العذاب في وجهها بالحياء.. تألمت صامتا وأنا في كل هذا الشقاء.. قلت:
- تحت أمرك.. تكلمي من فضلك.. أنا منصت إليك.
- التمعت في عينيها دمعتان، كأنهما قطرات ندى قبل هطول المطر:
- قرأت لحضرتك مقالتك الأسبوعية، في العدد الماضي من مجلة «سيدتي»، وكانت بعنوان «الشفاء من جرح الحبيب». وأنا أريد أن أسألك.. وجها لوجه؛ لأرى في عينيك إن كان هذا صدقا.. هل يمكن الشفاء حقا من جرح الحبيب؟
- كانت تغالب الدموع فغلبتها.. نظرت لي بعينين تمنحانها بسخاء، لكنها مسحت دموعها بسرعة، حتى ترى صدق ما أقول.
- لم أكن بحاجة إلى اختبار كشف الكذب، فقلت باطمئنان الواثق من صدقه:
- أستشف من كلامك أن جرحك جديد على قلبك، لم تعاني مثله من قبل.. يبدو أن الذي هجرك هو أول محبوب لك..
- قالت كل شيء دون أن تفتح شفتيها.. قالت بالنبع الذي يتدفق من عينيها!
- أيقظ قلبي من غفوته.. لم أنتبه لرائحة الفل قبله.. لم يرقص قلبي طربا لمرأى إنسان قبل أن يلوح وجهه في أفق حياتي، لم أرقص إلا ويمناه في يسراي ويسراه على كتفي وقلبي يضبط الإيقاع، لم تطل عيناي النظر في عينين ولم يسر في رأسي الخدر من نظرة قبل أن تكلمني عيناه، لم أحب رذاذ البحر، ولا ظل الشجر، ومهرجان الزهر، وأغاني الحب، وأوائل المطر إلا في صحبته، وتعلمت مفردات العاشقين من شفتيه: لم يقل لي أحد «حبيبتي» قبله ولا بعده، لم أعلم أني جميلة إلا بكلماته، ولم أذب عند غروب الشمس أو شروقها إلا معه..
- تخيل حضرتك مدى ألمي إذ فقدت كل هذا -كل ما أملك- فجأة..
- كان عليّ أن أتدخل عند هذه النقطة، لأستبين الحكاية:
- هذه قصيدة.. جميلة ومؤلمة، ولكن ما الحكاية؟ ماذا حدث؟ أعرف أنه هجرك.. لكن لابد أن أعرف متى وكيف ولماذا؟ حتى أستطيع أن أساعدك.
- لا يستطيع أحد أن يساعدني، بالمعنى الذي تقصده، كل الذي أطلبه منك أن تسمعني.. فأرجوك، دعني أتكلم، ثم قل ما شئت بعد أن أنتهي.
- آسف لمقاطعتك.. تفضلي..
- قلت إني كنت وردة مغمضة تفتحت على يديه، كانت كل رغباتي وأشواقي وعواطفي نائمة فأيقظها ورحل، وإذا كنت تريد القصة، فاعلم أنها الحكاية العادية المكررة.. أعجب بأخرى فتركني من أجلها.. لكنه فعل ذلك بقسوة، بلا أي تمهيد (فاضت عيناها مرة أخرى)، وكنت أراهما معا، دون أن يستتر هو مراعاة لألمي.. لقد شعرت ببعض العزاء حين قرأت مقالتك، كما أنها أعطتني بعض الأمل.. أمل الشفاء –يوما- من جرح الحبيب.
- بل تأكدي يا فتاتي العزيزة أن كل جرح يندمل، سواء كان جرح هوى أو فقد عزيز؛ لكني أعرف أن الجرح الأول -كالحب الأول- ناره في القلب الغض لا تُحتمل.
- من رحمة الله أن الجراح يشفيها الزمن، وأنا أطلب منك، حين تزور شفتيك ابتسامتك الثانية، أن تأتي تزوريني في هذا المكتب متأبطة ذراع محبوبكِ الثاني.. ولنتعشم معا أن يكون الأخير.. وأن تمضيا معا عمرًا طويلا هانئا.
- لكنكِ قبل ذلك لابد أن تتخلصي من وجود الآخر.. تذكري عيوبه وسيئاته، ولا تستسلمي لألم فراقه؛ حتى تستمرئيه وتتلذذي به، وحاولي أن تحولي ألمك إلى طاقة فعالة، فالجرح الذي لا يقتل يزيد صاحبه قوة، ساعتها تنفتح لك أبواب السعادة، وتدخلين حديقة الحب ويدك في يد الحبيب.