الجيل الثالث

 

وأعني الشباب المتحدّر من سلالة المغتربين.

وكثيراً ما تكون هجرةُ الجيل الأوّل بسبب حروب، أو نزاع؛ أو الشحّ والعوَز؛ إذ يندرُ أن يغادرَ المرءُ وطنَهُ من رغْدِ عيشٍ وهدوءِ بال.

<<< 

وغالباً ما يحمل أولئك الروّاد، مع ما ينقلون، الذكريات.

وتكون عُصارةَ واقعٍ عاشوه، وخبروه.

ويحكون عنه لمن يأتي بعدهم؛ أيْ إلى الجيل الثاني، أولادهم. ويكبر الأولادُ على أنغام «النَقّ» والتذمّر، والذكريات التعيسة؛ فينمو في نفوسِهم، بطبيعة الحال، نفورٌ من الأمكنة التي اضطَهدت أهلَهم، فهجروها؛ وقلّما يدفعهم شوقٌ أو حنين إلى زيارة موطن الأهل.

<<< 

ويمضون في تعميقِ علاقتهم بالعالم الجديد الذي رحّب بهم، وأعطاهم فرصةَ حياةٍ كريمة.

وهم، في كلِّ نقلة، يحاولون تأكيد انتمائهم إليه، إن في اللغة، أو في التعاملِ والسلوك.

<<< 

ثم يأتي الجيلُ الثالث، والذي لا يعرفُ سوى ذلك العالم الجديد. وينتمي إليه بالسليقة؛ إنّما يظلُّ، في خلفية وعيه، تائقاً إلى الجذور.

ويمضي، أبناءُ هذا الجيل، في البحث عنها وعن أصولهم، إذ تبقى ذكرياتُها عالقة في البال، من بعض ما روتْه لهم الجدّات.

<<< 

وهذا ما أوحتْ به رسالة إلكترونية مُفاجئة، وصلتْني من قريبةٍ أميركية لا أعرفها. وهي في شوقٍ وسَعْيٍ لمعرفةِ جذورها، والعالم القديم والمغروس في وعيها، كما في الذاكرة، من بعضِ أحاديث جَدّتها:

ـ أوّل شيء أنوي القيام به حين أصلُ، هو البحثُ عن البيتِ الذي وُلدتْ فيه جدّتي.

<<< 

أيقظت رسالتها ذكرياتٍ كانت غافية، مثلَ الجمر تحت رماد الأيام.

ذكريات حربٍ مرّتْ، وأبادتْ. ولم توفّر الذاكرة أو الأمكنة.

ومن أينَ للحفيدة الأميركية أن تعرفَ بأن الحيَّ الذي عاشتْ فيه جدّتُها، قد تعرّضَ لقصف مُركّز إبّان الحروب التي توالت على الوطن، حتى لم يبقَ هناك أثرٌ يُشير إلى أيّ بيت أو عمران!...

<<< 

لكن الحفيدةَ تحفظُ في ذاكرتها وجهَ الجدّة، وحكاياتِها؛ وربما مَنَّتِ النفسَ بالقيام بهذه الزيارة إلى وطن جدّتها، لكيْ تُرضي روحها، وتتواصل مع الجذور.

<<< 

أما الجدّة، وقد رحلتْ من قبل سنيّ الحرب، فلم تكن تعلم بأن القتالَ استمرَّ لسنوات، ولحقَ ببيتِ مولدها، فطمسَ آثارَه، ومحا الذكريات.

<<< 

وأتابعُ قراءة الرسالة بما تحملُه من لطفٍ وأشواق:

ـ كم أحبُّ أن نلتقي، خلال هذه الزيارة، بكلّ أفراد العائلة التي تحدّرتْ منها جدّتنا.

<<< 

وهي ليستْ أوّلَ زيارة يقوم بها أبناء الجيل الثالث من المُغْتَربين التائقين للبحث عن أصولهم والجذور. وتركتْ زياراتهُم تأثيراً طيباً في نفوسنا. وكنت أستشفُّ من سلوكِهم وحديثهم، أنهم عاشوا دائماً في توق إلى القيام بهذه الزيارة.

وكأنّهم جاءوا للوفاءِ بنذر، أو تحقيقِ وعدٍ قطعوه للسلفِ كما لأنفسهم.

<<< 

ومع أنَّ الزيارةَ سياحية ولا تمتدُّ أكثرَ من أيامٍ معدودة، إنّما تحملُ من المعاني أضعافَ ما تحملُهُ زيارةٌ عادية يقومُ بها الغرباء.

فهي تأتي، تحقيقاً لأحلامٍ عاشت في نفوسِ أولئك المغتربين، سنواتٍ عديدة. كما تجعلُهُم يتلمّسون الواقع، فلا يبقى صورةً خيالية.

وبالتالي، يلتقون مع حقيقةَ الوطن؛ ثم يعود كل واحد إلى دياره في ما دعاه جدودُهم الغربة؛ بينما هو للأجيال الجديدة، وطنٌ حقيقي، وبديلٌ من ذلك المكان المقيم، دائماً، في الحلم وفي الخيال.