mena-gmtdmp

الصمت

الصمت لغة بالطبع، فليس في هذا جديد، والصمت كلام لا يفهم إلا بالروح، والروح ليست شيئًا إلا غلالة العقل الشفافة، فالصمت يخاطب الغلالة الحرير، وقد يجرح الروح بالطول كأثر مطواة في الوجه.

والصمت أنواع بالطبع:

هنالك الصمت الذي يغلف التهديد ويبطن الوعيد، وهناك الصمت الذي ما بعده كلام، حتى القول والابتسام، وهنالك صمت المتردد، صمت يتأرجح بين كلمتين، كلتاهما تظل احتمالاً مؤجلاً معلقًا في الفراغ، احتمال الحب والزواج، أو احتمال الهجر والطلاق، وما بينهما من بندول يتذبذب، ربما إلى الأبد.

وهناك الصمت القاتل، قد يبدأ بإهانة أو أذى، ربما غير مقصود؛ أو قد يبدأ بلمعة في العين نتيجة فكرة في العقل، يتحول ببطء لكن بثبات إلى خطة محكمة لإزاحة خصم، أو نهب ضحية. هذا صمت استيعاب الفكرة، وبداية الخطة. بعد لمعة العين يتحول الصمت لابتسامة، ابتسامة عين على مهل تتأمل الفريسة، ابتسامة حنون، ساخرة، ترسم باستمتاع خطة الافتراس.

وهناك صمت استقبال الصدمة، وصمت رفض التصديق، ثم صمت الحزن العميق الهادئ، المترقرق كغدير من الدمع تحت القميص، عند الضلوع، وتحت الضلوع عند القلب الصامت الحزين.

وهناك صمت المحبوب حين الاعتراف بالحب، الصمت الذي قد يكون مقدمة للكلام الدافئ الناعم، أو قد يعطي الخيبة، والرفض.

أما صمت المحب، فإنه وليد حيرته بين الاعتراف الذي قد يأتي بالهوان، وبين كتمان الحب الذي يحرق القلب في صمت إلى الأبد. إنه الصمت الذي يأتي قبل الكلام، وقد ينتهي به، أو يظل كلامًا لا يقال.

وأما صمت المحبوب فإنه أحيانًا هو أيضًا وليد الحيرة، التردد بين القبول والرفض، أو وليد الخوف من جرح عواطف إنسان.

إذن، للصمت مقامات وأنواع وطوائف، وليس الصمت في حد ذاته من ذهب، فقد يكون من صفيح، وليس كل الكلام من فضة، فقد يكون من صدأ، وهكذا فإن من أطلق الحكمة القائلة «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب» سقط في التعميم، وأحال النسبي للمطلق.

فهناك صمت، كما رأيت، هو مقدمة للفرح، وصمت هو خاتمة للحزن، أو وهلة قبل انطلاق الرصاصة، وهناك الصمت المذبذب بلا انتهاء، المتأرجح بين أمرين كليهما، أو أحدهما قد يأتي بالراحة، أو بالخلاص.

هناك صمت سقوط الصاعقة، الهنيهة القصيرة قبل وقوعها، وهناك صمت التفكير قبل الإتيان بشيء جميل، وصمت الانهماك في الإتيان به، سواء كان طفلاً، أو قصيدة، أو وردة اعتنينا بها في البستان.

وهناك صمت الإنقاذ في حجرة العمليات، وصمت المحبين الاثنين في التقاء العينين قبل الكلام، وهناك صمت الشرود، قبل الصحو بكُرَةٍ في الوجه، أو تهشم إناء في المطبخ.