mena-gmtdmp

العقاب

تمطر دون توقف منذ خمسة أيام، الطريق إلى المدرسة صار عذابًا فوق طاقة الصبية الثلاثة: محسن، عبد القادر، وسعيد. ينبغي الالتفاف حول سفح الجبل، ونزول الوادي، والصعود ثانية، وقطع كيلومترين من الوهاد غير المستوية، قبل الوصول إلى المبنى الترابي الصغير المحاط بسياج من الأشواك البرية الحادة.

قدرهم أن يقطعوا سبعة كيلومترات ونصف الكيلو التي تفصل دوارهم عن المدرسة مرتين كل يوم على الأقدام.

البنات استسلمن سريعًا، وقعدن في بيوتهن، والد فاطمة أقنع أهل الأخريات، لا يجوز أن تفرض هذه المحنة على الفتيات، مشيهن في الخلاء غير مطمئن، وما يتعلمنه في المدرسة لن ينفعهن بشيء، مصيرهن الزواج والإنجاب، ما حاجتهن لتعلم الكتابة والقراءة والحساب؟

بعض الآباء ترددوا، لكن حادثة محجوبة بثت الشك والريبة في قلوب الجميع، ولم تعد أي من بنات دوار آيت أحمد ترافق الصبية الثلاثة إلى المدرسة.

محسن، زعيم الجمع الصغير، يقفز بخفة فوق الأحجار، متفاديًا برك الماء، والأوحال، غير مكترث بالزخات الرتيبة التي بللت قميصه الرياضي، وألصقت خصلاته الطويلة على جبينه، وصدغيه، يلتفت بين الفينة والأخرى لرفيقيه ليطمئن عليهما. كاد سعيد أن ينزلق في الوادي، منسوب الماء غير خطير، لكن الولد ضئيل البنية، ومن السهل عليه أن يغرق في بضعة سنتيمترات من الماء.

بدا سياج أشواك المدرسة في البعيد، حث الأولاد الثلاثة خطاهم، وفكر محسن في أنهم تأخروا أكثر من ساعتين هذه المرة، اضطروا لذلك، لن يكون المعلم مسرورًا، لكن لم تكن بيدهم حيلة، اجتياز الوادي لم يكن سهلاً، وهو لم يرد المخاطرة بالولدين اللذين وضعهما أهلهما في عهدته.

التفت يستعجلهما، وشعر بصندله الجلدي العتيق يرتخي في قدمه اليمنى، تفقده بقلق ووجد ربطته انحلت من تحت القدم، هذا ما كان ينقصه، كيف يعود إلى الدوار بصندل ممزق في هذا الجو؟

تنهد، وسله من قدمه، وتقدم رفيقيه حافيًا إلى مدخل السياج الشوكي.

باب البناء الطيني الذي يشكل غرفة الدرس مفتوح، ونوافذه الصغيرة مشرعة، الجدران مشربة بالمياه، والسقف مثقل بطبقة الطين المخلوط بالتبن التي أضافها المعلم له في بداية الشتاء، وقف الأولاد أمام الباب، وتجاهلهم المعلم، كان يكتب شيئًا على السبورة، صبروا دقائق طويلة، ثم مد محسن أصابعه إلى الباب الخشبي المتآكل ونقره بلطف.

التفت المعلم بتجهم، ووضع الطبشور، واقترب من الأولاد وفي يده عصاه.

لم ينبس بكلمة، رفع العصا، ومد الصغار أيديهم باستسلام، ضرب محسن بحنق، وأتبعه بسعيد، ثم عبد القادر، ثم عاد إلى محسن وعيناه تلمعان من التشفي.

يكرهه

يعرف أنه لا يتحمل النظر إليه، منذ حكاية محجوبة.

توقف الأستاذ ليستريح، وسمع محسن سعيد وعبد القادر يبكيان خلفه، فكر في أن يطلب من المعلم أن يدعهما وشأنهما، ويضربه مكانهما، لكنه خشي أن يضاعف حنقه.

رفع المعلم العصا ثانية نحوه، لم يعد يشعر بيديه، عض شفته وتذكر أنه تلقى علقة مماثلة يوم انكشف دوره في فضيحة محجوبة، سأله المعلم إن كان فعلاً هو من أخبر والدها بما حصل عند الساقية، ولم يستطع أن ينفي، وضربه المعلم حتى كاد يغمى عليه.

توقف الضرب ثانية، وارتفع بكاء سعيد وعبد القادر، وهمهم الأولاد في القسم، رفع المعلم وهو يلهث يده وأشار بسبابته إلى الساحة «وقوف... هناك!«.

انصرف الأولاد الثلاثة حيث أمرهم، الجزء الثاني من العقاب، الوقوف لساعات تحت المطر.

سأل سعيد محسنا إن كان يشعر بالألم، وكذب محسن: لا... لا أشعر بشيء.

لم يكن مطمئنا في الحقيقة، تورمت يداه، وأدمت كفه اليسرى، وتصاعد من كل ملليمتر فيهما ألم لا يطاق، لكن رفيقيه مذعوران بما يكفي.

وقف الثلاثة تحت المطر، ولحق بهم صبي من دوار آخر، عبد الصمد.

سأله محسن عما يجري، وسب عبد الصمد المعلم بحنق، طلب منه فقط أن يسامح الصبية الثلاثة، وهذا كان جزاءه.

تنهد محسن، لم يعد المعلم يطيق أحدًا، هل أخطأ عندما أبلغ والد محجوبة بأن ابنته تختلي أكثر فأكثر به؟ هل كان عليه أن ينسى المنظر القبيح الذي فاجأه عند الساقية؟ الفتاة الصغيرة في أحضان رجل غريب؟

المطر لا يزال يسقط، ضجة وضوضاء في القسم، والمعلم يصرخ، ويرفع عصاه يمينًا وشمالاً، خرج الأولاد مذعورين، وصفق المعلم الباب خلفهم بعنف، وارتفع اللغط والصياح والبكاء في الساحة، ثم وقعت الواقعة، انهار سقف المبنى الترابي القديم.

تحولت الغرفة في ثوان إلى كومة من الأتربة، والأحجار، والغبار المتصاعد، واختفى المعلم تحت الأنقاض