عندما غنّى المطرب الشعبي أحمد عدوية، في العقد السابع من القرن الماضي، أغاني مثل «حبّة فوق وحبّة تحت، وسلامتها أُم حسن، والسح إدّح...» انقلبت الدُنيا آنذاك، واعتبرها بعض المُوسيقيين والنُقاد موجة رديئة وسَتمر وتذهب.. واعترض الكثيرون من النُقاد والفنانين والموسيقيين وشعراء الأغنية الراقية، حيثُ كان ذلك اللون الغريب من الغناء العربي بمثابةْ صاعقة في عالم الموسيقى والأغنية العربية.. وبرغم ذلك لاقت تلك الأغاني القبول لدى بعض الناس، وكان قد سبق ذلك اللون الغنائي العجيب لونٌ جيد من الغناء الشعبي ولاقى قبولاً واستحسانًا لدى الجميع مثل أغاني المطرب محمد عبدالمطلب في أغانيه: «السبت فات والحد فات»، «ساكن في حي السيدة»، وكذلك «حبك على فين هيودينا».. وكذلك المطرب عزيز عيد في أغانيه: «تحت الشباك لَمَحتك يا جدع»، «يا خارجة من باب الحمام» والأغنية الشهيرة لنفس الفنان «بطلوا ده واسمعوا ده»، والتي تخللت فيلم لعبة الست... غير أن موجةْ الأغاني رائعة لعبدالمطلب وعزيز عيد، وغيرها من الأغاني الشعبية للمطربين في بلدان العالم العربي ومن سبقهم، اعتبرت أغانيهم شعبية رائعة يرددها الناس ويغنيها الفنانون الشبان عبر العصور، فما زلنا نُرددها ونسمعها، وستبقى تلك الأغاني، استمرارًا لموجة التواصل في بعض ألوان الغناء و«الروقان» المستمر والذي يعشقه «الناس الرايقة» ذوو الأدمغة «المتكلفة» الذين لا يطأون المسارح وحفلات الغناء إلا بعد أن توزن أدمغتهم «المتكلفة»، فكان لا بد من التواصل والتطور في الألوان الغنائية في عصرنا، العصر الآلي الحديث، حيث ظهرت وابتكرت أغانٍ جديدة ودخيلة بِحق على الفن والغناء، ونكبة لغوية وموسيقية ربما توازي نكبة يونيو! فصُعق المتذوقون لألوان الغناء والموسيقى عندما سمعوا مطربًا يغني «كوز المحبة اتخرم عايز له بنطةْ لحام!»، إلا أن الاستمرار في التجديد في ذلك اللون الغنائي، وبظهور أغنية المطربة الرشيقة الجميلة «حُط النُقط على الحروف» اطمأن المتذوقون قليلاً على الأغاني الشعبية! وبظهور وإطلالة البلبل الذي أنشد «بحبك يا حمار!» كان اكتمالاً للون «التربي» الجديد، وبالفعل الحمير مخلوقات مهمة وحيوية لكي نتغنى لها وبها وندخلها في عالم الطرب جدًّا، فساد الاطمئنان بعد الإنشاد والغناء للحمار، إلا أن الشعور بالرضا عن الغناء الشعبي وصل لذروته عندما شدا بلبل جديد وبلون جديد وكلمات رنانة في أغنية «الحوشة في الشلحطة» كلمات مُفسدة وأغانٍ مبتذلة مقدر لها الاستمرار في الانحدار الغنائي والموسيقي، فبظهور أغانِ وموسيقى رديئة وهابطة ولا معنى لها، تعتبر بحق أسوأ فترات الموسيقى والغناء العربي.
ولا يُعرف أي رِقابة فنية أجازتها، وكيف تم تمرير ذلك النوع من الأغاني وتسريبها وتسجيلها على أسطوانات وطرحها للأسواق؟! فعندما تغنَّى عدوية بأغانيه كان العالم العربي يعيش في أجواء نصر معركة أكتوبر 73 المجيدة، فكان العالم العربي كله يُغني، ولهذا رُبما راجت موجةْ عدوية ولاقت قبولاً أو رفضًا، وراجت لأن الشعوب كانت فرحة بنصر 73، وصواعق الأغاني والموسيقى الهابطة لهذا العصرُ تمثل جزءًا من بعض انعكاس لما يجري من تدهور الأوضاع المختلفة الثقافية والأخلاقية والاقتصادية، ففي الخمسينيات والستينيات كتب الشعراء وتغنى المطربون بالأرض والوطن والمحاصيل الزراعية ولمن يزرعها ويحصدها، حيث غنوا للقمح والقطن «القمح الليلة.. الليلة يوم عيده.. يا رب يبارك يبارك ويزيده» ابتهاجًا وفرحًا بالأرض والقطن، ذلك المحصول الجميل الذي كان رائجًا وغنيًّا وثريًّا للبلاد ويثري ثرواتها وشعبها، وغنَّى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب للفلاح، تحفيزًا لذلك العامل البسيط الكادح المُجد «محلاها عيشة الفلاح»، ورحم الله العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذي غنَّى بجدارة الأغنية الوطنية والأغاني العاطفية والدينية، وأغنيةْ النجاح، وأغنيةْ الميلاد، وتبنّى الاثنان «عبدالحليم وعبدالوهاب» العديد من المُغنيين المُبتدئين الجيدين، فكان ذلك العصر هو عصر الجد والكد والعمل، عصر النبوغ وعصر الزمن الجميل، عصر ازدهار فروع الأدب مثل القصة والرواية والشعر والمقال... وعصر الثقافة والموسيقى.. أما في العصر الحديث وبعد أن كان المواويل والموشحات و«الطقاطيق» والقصائد الهادفة أو الناقدة أو الساخرة تنشد قديما، صار يتغنّى للحمير و«الحناطير»!