جار وجار!!

بيتك، مملكتك، راحتك، مسميات كثيرة لمعنى البيت ففيه البيتوتة، ولي جار بدَّل لي هذه المعاني، فحولها إلى مملكة جارك، وراحته، وبياته، فجاري العزيز بدأت معرفتي به بعد خلاف على المياه، فقد كنت وقتها مستأجرًا جديدًا، وصعد الرجل لشقتي صارخًا ظنًا منه أنني عندما استعمل المياه تنقطع من شقته، وبعد مشادة كادت تصل إلى حد الاشتباك بالأيدي، تيقن الرجل أن العيب في السباكة وليس في استخدامي للمياه، وبعدها أفرغ جاري عليّ قناطير مقنطرة من الاعتذارات وقبلت اعتذاره.. وفي إحدى الليالي بعد أن عدت من عملي، إذ بجرس الباب يدق بشكل هستيري مزعج، فهرعت للباب ووجدت جاري واقفًا باسمًا يطلب الدخول فرحبت به، وحضر العشاء لكن جاري أبى أن يتناول العشاء معي؛ لأنه قد تناول عشاءه قبلي بساعات، وقلت له إن موعد عشائي يتأخر لأنني أعود من عملي متأخرًا، فقال واضح واضح، وشربنا الشاي، وبدأ الرجل في سرد حكايات قديمة على حكايات جديدة وشربنا (الشاي) أكثر من عشر مرات، واقتربت الساعة من الثالثة بعد منتصف الليل على أن يهم الرجل بالمغادرة أبدًا لم يفعل، وملامح وجهه تظهر أنه مرتاح ولا يفكر بأن يخرج من بيتي، حتى وصلت الساعة الرابعة فجرًا، إلى أن بدأ النعاس يطارده ويسقط من يده الشاي مرة، وتسقط رأسه على الجدار مرات، ثم بعد كل هذا العذاب قال: استأذن سهَّرتك، وكعادة أي مؤدب.. قلت له: لا.. عادي أنا بسهر أصلاً خليك.. الجلسة معاك حلوة والله، فاعتذر الرجل وخرج.. وأنا أجر رجلي وجسدي، مثقل بشكل مرعب.. وحمدت الله على خروجه.. ودار بعقلي أنه لربما كان برأسه أمر ما وخجل من ذكره أو.. أو.. وبدأت أبحث له عن أعذار.. ولكن عاود جاري الكرة مرة ومرتين، بل أصبحت هذه عادته كل ليلة.. حتى إنني أصبحت أتهرب منه.. وأدخل بيتي خلسة.. أو أظل خارج البيت على مقهى ما.. لعل الرجل يمل ويفقد الأمل في عودتي، فينام أو يبحث عن شخص آخر يبتليه.. وكم من مرة قبض عليّ الرجل وأنا عائد للبيت خلسة.. أتحسس الخطى.. ليفاجئني بيده تهوي على كتفي، قائلا: وحشتني أنا سأسهر ببيتك الليلة.. وجربت كل الحيل معه لدرجة أنني بدأت بوضع لوحات تنبيه بكل ركن تقع عليه عينه.. كـ«النوم مبكرًا شيء صحي».. أو «يا بخت من زار وخفف»، لكن دون جدوى.. حتى وصلت لقناعة بأن هذا الرجل لن يتركني في حالي أبدًا.. فلم يكن أمامي إلا.. التغيير، وبالفعل.. غيرت محل سكني بليلة ظلماء كاللصوص.. وهربت من جاري.. وبعد مرور أشهر عديدة كنت في مركز تجاري وفوجئت بمن يضع يده على كتفي صارخًا.. «مين حبيبي وجاري القديم..»، وأحضان وشوق واستعراض لأيام جميلة فاتت.. وسألني «أين أنت.. ولِمَ تركت العمارة.. تعرف والله عندك حق أنا أيضا نويت أن أغير سكني..» وبادرني بسؤاله: «أين سكنت؟» فما كان مني إلا أن قلت له: أنا مريض بمرض معد وأتعالج بمستشفى خاص سرًا، «عافاك الله جاري القديم»، فانتفض الرجل.. وسحب يده من يدي.. وأخذ خطوتين إلى الوراء.. وأشاح لي بيده «نشوفك بعدين»!! مع السلامة..

للتواصل مع الكاتب يمكنكم مراسلته عبر البريد الالكتروني [email protected]