
ما استراح المحبون وإنْ زقزقوا وشقشقوا كالعصافير، وأقتل ما في الحب الأرق، يسمونه أيضا السهد في لغة الهوى، مذلة العاشق للمعشوق، إن الجفن القريح من هجر النوم يشكو هجر اثنين: مصدر الألم وعزاء الدواء.
الذاهب للطبيب يعلم أنه سيريحه وإن بوهْم الشفاء لكن النوم الممتنع المتمنع يقف عند الباب كتومرجي رذل يصد الداخلين، والطبيب بالطبع عزيز متعزز، وهو عين الداء فمن أين يأتي الدواء؟
يأتي الدواء لو سمح المحبوب، لكن المحبوب يتباهى بقدرته على إخضاع العاشق لتجربة المذلة، ولدعاء النوم الذي يتدلل هو الآخر ويعطي ألف وعد ـ في غفلات لدقيقة أو اثنتين ـ لكن لا يأتي، ويستمر هذا الوضع طول الليل، وغفلة ما قبل الفجر القصيرة سرعان ما يكتسحها النور، هذا إنْ جاءت أصلا.
يقدرون عمر العاشق بالساعات؛ لأن لحظات الرضا قليلة خاصة إن جاءت من جميل ظلوم، ولعل الشفاء الحقيقي لا يأتي من رضا الحبيب المتقلب، ولكن من ثورة العاشق على المعشوق، ومن قبلها على نفسه، فيأبى على نفسه الخضوع وتسليم القلب والعقل والروح لمخلوق مثله؛ مهما كان متحكما في قلبه وجسده.
فالثورة على المحبوب الظالم ثورة على النفس، وضعفها وتذللها، وتلذذها بكل ما يأتي من المحبوب حتى الألم، وأحيانا الألم بالذات، وهو ما ينتقل بنا من العشق للطب النفسي، فهي حالة مرضية تسمى بالمازوخية أو «التلذذ بالعذاب وخاصة تعذيب المحبوب».
حين تكون خلاصة الحب الأرق، فالنوم أبرك، وكل ما يجلب النوم أعقل، فالقراءة في الفراش، في أي موضوع إلا الحب، تجلب النوم بعد حين، وممارسة أي نوع من الرياضة أجدى من التفكير فيما لا يطال، وأنفع للبدن مما يضر الروح والبدن. واكتساب هوايات جديدة مثل قراءة كتب الطهو وتجريب وصفاتها (وذلك للنساء والرجال)، وهوايات نسائية كالكروشيه والتريكو والكانافا، ورجالية كالشاي والقهوة والنارجيلة والتردد على المقاهي، ولعب النرد والشطرنج، كل هذه الأشياء لا تضر بل تنفع، وإن كان فيها بعض الضرر فهو لا يُقاس بتلك الهواية الشخصية التي تطرد النوم بإرادتها ثم تطارده.
فالحب وإنْ انطوى على جانب كبير من القهرية، يخضع في الحقيقة للإرادة، فهو اختيار، حتى إذا اشتكى منه المحبون، وقالوا إنه قدر محتوم، فتحت الجبر اختيار، بل وموقف من الحياة، موقف يتخذ معنى لوجوده بالطرب برسوم الوهم والخيال، والتمتع برحلة السراب حيثُ لا ماء، وأغلبهم يعلمون، ولو في قرارة أنفسهم، وإن كان هناك ماء فهو في قرارة أنفسهم وهم لا يعلمون!
أجل إن ما نحتاجه في داخلنا وليس في خارجنا، ولست أدعو إلى نبذ الحياة والناس والحب الإيجابي الذي يؤدي إلى البناء، لكن تسبيل الجفون لصورة وهمية طرحنا على أصلها من أنفسنا بريقا ضبابيا وقلنا هذا هو الحب، إن كان حقا هو الحب، فالحب سراب ومضْيعة للوقت، وتقريح غير مجد للجفون.
والسهر والسهد مرادفان للأرق، والحب إذا كانت خلاصته الأرق فهو حلم يقظة، يحرم الإنسان من اثنين معا: النوم واليقظة!