دعوة رمادية


وصلتني الدعوة أمس، أتت بها أختي وزوجها، وألحا عليّ لكي أعود معهما إلى مراكش، صافية تصر على أن أحضر عرسها، وتهدد إن لم أفعل بأن تغضب عليّ، وتقطع كل صلة بيننا.

لم أفتح مظروف الدعوة، وضعته جانبا، وخرجت أتجول مع سهام وزوجها في المرتفعات.

منذ بداية العام وأنا أحاول أن أعقّل صافية، سعيد لا يصلح لها، الرجل خبر الدنيا، وتزوج وطلق عدة مرات، وأكبر أبنائه يصغرها ببضعة أشهر فقط، ما الذي يجبرها على الارتباط به، ودفن شبابها معه، والتضحية بمستقبلها وأحلامها من أجله؟ ما الذي يضمن لها عدم تخليه عنها؟

 سبق وأن ترك زوجاته السابقات.

لم أحبه أبدا، ولم أستلطف حركاته الزائغة، وأدبه الخبيث، وكرمه الزائف، ولم أقل لها إنه حاول أن يرمي شباكه عليّ قبل أن يلتفت إليها.

 افتتنت به، واندفعت بكل عنفوان سنواتها العشرين في علاقتها معه،

وها هي تتحضّر الآن لأن تُزف له.

انبهرت أختي بمرأى حزام أشجار الأرز والسنديان والصنوبر التي تمتد حتى الأفق، كنا في مكان ما في غابات وادي أوريكا في ضواحي مراكش، رحلتي إلى كوخ زوج عمتي استغرقت بضع ساعات، لم أخطط لها، مناقشتي الأخيرة مع صافية كدرت مزاجي، ودفعتني إلى الهروب أبعد ما استطعت، لتفادي حضور زفافها.

تطلع ثلاثتنا إلى الخضرة المترامية في الوادي، كنا نقف على مرتفع يتيح لنا النظر إلى هامات الأشجار المنثورة عند أقدامنا، صمت آسر يلف المكان، لا يقطعه سوى صوت خرير المياه في جداول قريبة، وزقزقة العصافير بين الأغصان الكثيفة.

 «عمتكما تعيش في جنة! » قال زوج أختي وهو يمد ذراعيه عاليا، ويبدو على وشك أن يضرب بهما على صدره وكأنه طرزان الغابة، هززت رأسي موافقة، وأنا أفكر في المرات الكثيرة التي تمنيت فيها أن أحظى بعمل مثل عمل زوج عمتي، حراسة غابة بعيدة عن ضوضاء البشر ومشاكلهم، لم أشعر بمرور الوقت منذ قدومي، وجدت نفسي أعيش بعمق وانتشاء كل ثانية قضيتها بين المرتفعات، فكرت كثيرا، واقتنعت بالكلام الذي جاءت أختي تردده علىّ:

«لا يمكنك أن تجبري صديقتك على شيء، دعيها لتخوض التجربة، وادعي لها بالتوفيق...».

تمنيت ذلك، ولكن فكرة حضور عرسها ترعبني، سيتحتم عليّ تحمل نظراته الزائغة، وكلامه المعسول، وحركاته المريبة التي لا تريد صافية أن تنتبه إليها.

«هل رأيتِ بطاقة الدعوة؟ باذخة للغاية! كلف العريس مطبعة معروفة بتنفيذها...»

لم أرها.

 تمشيت على طول الشريط الضيق المطل على الوادي، لا أثر لبشر، لا سياح يستكشفون ممرات الوادي، ولا رعاة يجوبون المرتفعات المحيطة بالقرى البعيدة المتناثرة على ضفتي النهر، السكون يعم المكان، عدوى المونديال وصلت إلى الغابات، زوج عمتي نفسه يقضي كل وقته قرب المذياع، ويحلم بتليفزيون يشاهد فيه المباريات.

التفتُ إلى زوج أختي، الرجل الوحيد في محيطي الذي لا يكترث بكرة القدم، مازحته بالأمر، وابتسم وعيناه لا تحيدان عن الوادي: «دعيت مرة لقضاء عطلة عند أشخاص في جبال الريف، وجلس الرجال في المقهى يتابعون ديربي الليغا الإسبانية، وكان هناك مناصرون كثر لبرشلونة، وفي كل مرة يحرز فيها الفريق هدفا كان الرجال يقومون بصخب ويطلقون عيارات من بنادق الصيد في الهواء، خشيت وسط الفوضى والمشاعر المتأججة أن يتأذى أحدهم، كرهت الكرة تلك الليلة أكثر من أي وقت مضى، خصوصا وأن الفرقعة استمرت حتى بعد انتهاء المباراة...».

عاتبته سهام لأنه لم يحك لها هذه الحادثة، وسألته ما الذي يخفيه عنها غير ذلك.

«الكثير، الكثير... » أجاب بغموض.

 فكرتُ بأن مزحته جادة في العمق، ما الذي تعرفه الواحدة منا عن الشخص الذي ارتبطت به، أو الذي تتهيأ لأن ترتبط به؟

مرة ثانية قادتني أفكاري نحو صافية.

فتحت مظروف الدعوة عندما عدنا، طباعة البطاقة فاخرة، وألوانها غريبة، مختلف درجات الرمادي، من اللؤلئي الشاحب إلى الدخاني الداكن والكئيب، فأل سيئ، كيف تقبلته صافية؟ تفحصت البطاقة، رسوم منسابة، وحبات عقيق لامعة، وكلام رقيق مكتوب بخط أنيق، ورماد في كل مكان.

« اختيار غريب، أليس كذلك؟ “قالت أختي خلف ظهري” لكن الرمادي هو موضة هذا الموسم على ما يبدو...».

ربما، لكنني لا أرتاح لشيء في كل هذا، لا العريس يحوز على ثقتي، ولا العرس يثير حماسي، ولا حتى بطاقة الدعوة تطمئنني.

لن أخيب ظن صافية رغم كل هذا، سأحضر زفافها، وأترك الزمن يحكم بيننا.