أما كلمة «ديليت» فأكثر ما تقترن بالرسائل الإلكترونية.
ما تكاد تفتح الجهاز حتى تطالعك أسماء وعناوين تجهلها.
بعضُها يحمل معنى، بينما يبقى الكثير منها عبئاً على ذلك الجهاز.
وإذا كنت إنساناً جدّيا، ولديك أشغال ومسؤوليات، فمن الطبيعي ان لا تضيع وقتَك في قراءة تلك الرسائل، فتلجأ الى التخلّص منها وتقول: «ديليت، وتعني «شطِّبْ» وبكبْسة زرّ، كي تُفسح مكاناً لما يأتي بعدها.
<<<
وكثيراً ما أجد نفسي في مثل هذه الحالة وأنا أقرأ بعض الصحف، أو أتصفّح العناوين، فأختار ما يهمُّني، إن من جهة المعنى أو المبنى، وأقول لما يبقى: ديليت.
وتعود تلك الحال أمام شاشة التلفزيون، وأنا أشاهد ما يتدفّق من صور وعناوين.
فهناك عدد لا يُحصى من الفضائيات؛ بعضُها يبثُّ برامج مفيدة ومسليّة بأسلوب ترفيهي مميَّز؛ بينما تقوم بعض المحطّات، من خلال برامجها، بتعميم التفاهة وانعدام الذوق. ومنها من يلجأ الى ما هو دون المقبول إن في مستواه الفكري أو الفنّي.
<<<
وماذا نفعل حيال هذا الواقع؟
أتساءل وأنا أفكّر بالناشئة وهموم تربيتها، وماذا يمكن أن يعمل الأهل، وكيف يتصرّفون؟
إن الجواب على تلك الأسئلة يكمن في أسلوب التربية، ووعي المربّين منذ ان يفتح الطفل عينيه ويبصر تلك البُقع الملوّنة والجذّابة في محيطه.
<<<
أذكر، في هذه المناسبة، حديثاً دار بيني وبين طفلة في السادسة من عمرها، وكانت تزورنا في غياب أهلها. وعندما دعوتها لتشاهد برنامج الأطفال في إحدى المحطّات التلفزيونية فاجأني ردّها:
ـ دعيني أكلّم الماما، وأسألها إذا كانت تسمح لي بمشاهدة «نصف ساعتي» في التلفزيون.
<<<
تلك الأم لم تكن تُمارس القمع والتشدّد مع أطفالها، بل الحزم، ومنذ السنوات الأولى من تنشئتهم. والطفل يُدرك ما هو الممنوع في نظامِ حياته ويقبله. بل يسوق حياة هانئة عندما تكون العلاقة مع الوالدين، قائمة على الثقة والنظام.
<<<
وأستعير، أحياناً، كلمة «ديليت» في مواقف أخرى كمثل تلك الزيارة الى دار سيِّدة من طبقة مرموقة في مجتمعها، إلاّ أنّها مُصابة بما أدعوه «هَوَس الإقتناء». فهي تنزع الى امتلاك كلّ ما تقع عليه عينها.
تشتري وتحشد الأشياء في جوانب دارها. وحين تضيق صالات الإستقبال تملأ الغرف الجانبية، حتى اذا امتلأت تمضي في تكديس الأثاث والأشياء في المخازن السفلى من البناء حتى تكاد تلك الأشياء ان تختنق من ضيق المكان.
<<<
وحين تجلس تلك السيّدة كي تتحدّث الى زائريها، لا تتوقّف عن الشكوى والتأفّف والتبرُّم بالوجود وما فيه.
<<<
أما الطبّ النفسي فيحلّل تلك الظاهرة بكلمة واحدة: التعويض.
ويكون تعويضاً من حرمان في الطفولة، ويبقى كامناً في أعماق الكيان؛ وقد يكون حرماناً عاطفياً أو مادياً؛ حتى اذا توفّرت الإمكانات المالية، يحاول المرء أن يعوّض بها عمّا ينقصه، أو ما فاته في مرحلة التكوين الأولى.
وهكذا يمضي في حشد الأشياء والأمتعة من دون حساب.
<<<
وما يساعد هذه الظاهرة ويشجّعها، هو نشوء ما يُعرف بالمجتمع الإستهلاكي، وتشارك في تكوينه المؤسسات التجارية، وأقنية الدعاية والإعلان. وجميعها تدعو الفرد في ذلك المجتمع الى التسوّق والشراء. وتزيّن له الحاجة الى تلك الأشياء، فيما هو قادر على ان يبقى بغنى عنها، مدى الحياة.