mena-gmtdmp

ذاك النثار

لا أعرف ولن أقف على العوامل التي تحرك ذلك النثار من مراقده وتدفعه إلى مراكز الرؤيا والتحديق، لحظات مبتوتة، عبارات غير مكتملة، روائح هنية، هفهافة لا يمكن إدراكها بالبصر أو الملمس، لكنها تستدعي حقبًا ومراحل، وربما تدل على عصور منقرضة لم يعد لها إلا التخمين، ربما تبدو ملامح من البعيد، فترسل إلينا وفادة من النسيان، طال بنا الظن أنها اندثرت وفنيت، فجأة يسعى شخص، أحكيه للأصحاب، أو أروي حدثًا أو ملمحًا أو نادرة ارتبطت بها، أما اللحظات التي تندثر فجأة، أحيانًا كزخات الشهب، أو كنيزك مارق فتبدو معلقة، ساكنة، منبتة عما قبلها وما يليها، وما تحت الثرى، كل ما مضى صامت، لا يتحرك عند استعادته، نستعيد الصورة بدون حركة الماثلين فيها، بلا أصواتهم أو أي عبير متصل بهم، للروائح سبل أخرى، كل منها يسترجع اللحظة المولية ومكوناتها، لكن أي مكون منها لا يستدعي رائحة ما لا يتحرك على المعاين، المرئي، أما المنقضي فلا يبدو إلا متجمدًا، شاخصًا بغير رواح أو مجيء، ساكن لأنه اتحد بالعدم، ورغم صمته واستحالته، لكننا لا نكف عن التوسل لاستعادة، فظهوره العدمي هناك يعني أننا ما زلنا هنا، وبيان شظاياه الواهية عبر الذاكرة فيه تأكيد لحضورنا الآن، وأنه ليس لنا إلا ما سعيناه.

 

عبور

يسألني ضابط الجوازات، هادئ الملامح طيب الوجه:

- «كم ستبقى في كليفلاند؟»

- «أتمنى ألا تزيد إقامتي على شهر»

يتطلع إليَّ، نظراته سيَّالة إليَّ، إنسانية، أستعيد نبره

« I can understand what do you mean»

كررها مرتين، يتمنى لي إقامة طيبة وشفاء.

 

يا رب

في استراحة الفندق الملحق بالمستشفى، يسألني علي صبري، رئيس البنك العقاري سابقًا، البالغ سبعين عامًا.

- «من سيجري العملية»؟

- «الدكتور كاسيجروف.. يقولون إنه أستاذ مثل هذه العملية

المزدوجة، الصمامات والشرايين..»

يتطلع إلى صامتًا، ثم يقول:

- «قول يا رب..»

أهتف من أعماقي:

- «يا رب»

 

حسرة

ما ورائي أكثر مما يبدو أمامي، ما فعلته أغزر مما أستقبله، أكرر رغبتي، أمنيتي المستحيلة، أن أمنح فرصة أخرى للعيش، أو أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة، أجيء مزودًا بتلك المعارف التي اكتسبتها في وجودي الأول الموشك على النفاد، أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع: وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن العوم، وتلك النظرة تعني الود، وتلك للتحذير، وتلك تنبئ عن ضغينة.

كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات، وما زلت أتهجى بعض مفردات الأبجدية، كم من أمور سيتم عبوري ولن أدرك كنهها، لن أقف على دقائقها، أدركت ما يتعلق بغيري، ولم أقف على ما يتصل بي، فيا حسرة على العباد!