mena-gmtdmp

ذكريات لحية بيضاء ـ2ـ


من ذكريات الطفولة عند أي إنسان العيد وبهجته، من قرص الكعك المرشوش بالسكر، للدراجات المزينة عجلاتها بالورق الملون، للأرجوحة التي تلف حول محورها دورة كاملة من أعلى لأسفل ومن أسفل لأعلى، للريال الفضي الملامح الذي كان في زمننا يا آنستي ياما هنا وياما هناك، أي ثروة بالنسبة لطفل.

ومن أجمل مظاهر العيد في ذاكرتي لقاء الأقارب، بما يوسع فرص اللعب وأنواعه، فاللقاء بأبناء العمومة والخؤولة، وأبناء الأصحاب والخلان يوسع العالم الخاص لكل طفل، ويفجر داخله طاقة الدهشة، كما يشيع ذلك الدفء الذي لا يقدمه لطفل إلا طفل مثله.

أتذكر الآن مشكلة قدوم الليل، فحين يأتي موعد انصراف العم أو العمة، يتشبث الواحد منا برفيقه ويدخل في مناشدة ومرافعة حتى البكاء ودبدبة الأقدام، مطالبا أن يبيت ابن العم أو الخال معه، وأحيانا يستجاب الطلب وأحيانا لا، ويا له من انتصار ونشوة حين يلبَّى الرجاء.

يجرني الحديث عن العيد إلى اللعب، ومن اللعب إلى حياة الناس من نصف قرن أو أقل قليلا (ياللهول! لقد هالني أني كنت طفلا من نصف قرن، كأنني أكتشف ذلك الآن فقط).

مثل كل شيء في ذلك الزمان كان اللعب بسيطا، ولا يكلف شيئا: كرة مصنوعة من شرابات قديمة في باطنها قطعة من الإسفنج، دراجة يؤجرها الطفل من عند «العجلاتي» بثلاثة قروش في الساعة، بالونة بقرش، علبة فقاقيع صابون تعكس كراتها نور الشمس وألوان الطيف بقرشين- (كانت اختراعا مستحدثا يمثل طفرة تكنولوجية هائلة، ولم تنقطع أبدا دهشتنا مهما مر عليه في أيدينا وأمام أعيننا من سنين)، ولا يخلو الأمر من الليدو أو السلم والثعبان والكوتشينة، وكل هذا ثمنه ما بين خمسة وعشرة قروش.

كل هذا عادي وطبيعي بأسعار زمان، أما الذي تفرد به زماننا فهو القدرة العبقرية على استخدام الخيال، واختراع ألعابنا الخاصة، فكل شيء يصلح مرمى حتى حائط السرير، بل قد نقيم مباراة كبرى بين الأهلي والزمالك بمرميين وكرة منمنمة من ورق، بينما تقوم الأصابع بدور اللاعبين، والفم بدور المذيع والجماهير.

أعتقد أن هناك فارقا جوهريا بين ألعاب هذا العصر وألعاب زماننا، وأظنه في صالح القديم، ألا وهو الخيال، فالألعاب الإليكترونية تعفيك من اللعب بخيالك لإقامة مباراة، فأنت الآن تراها مجسدة أمامك دون أي مجهود، وقولي لي يا آنستي هل لديك عروسة كنت تكلمينها من أعوام، وتهدهدينها وتهننينها وتحمينها وتلبسينها وترضعينها؟ هل ما زالت عند الأطفال تلك النزعة التي تجعلهم يبنون في خيالهم عالمهم الخاص؟ وأن يعوضوا التخلف التكنولوجي، مقارنة بهذا العصر، بقدرتهم على التخيل والابتكار والإبداع؟ وأن يهزموا تقشف الحياة وبساطتها -في ذلك الجيل الذي كان طفلا في ستينيات القرن الماضي، وما قبله بالطبع- بأن يحولوا الأشياء البسيطة، مثل الورق إلى بذخ، فيصنعوا الطائرات والمراكب والصواريخ، ومن الأقلام جنودا تتصادم، أو أصحابا يكلمونهم، ومن البيت ملعبا لكرة القدم برغم كل ما يسببه ذلك من إزعاج؟

هل تتناقص قدرة الخيال بشكل مطرد مع توالي الأجيال؟ ربما كانت هناك وسائل تقلل من فداحة هذا المصير، حكايات الأمهات قبل النوم، قراءة القصص، إعطاء أهمية أكبر لدروس الرسم والموسيقى في المدارس، الصداقة بين الطفل وأبيه، وأن يحكي له عن الحياة وعن تجاربه الخاصة ومشاهداته في الدنيا، وقراءاته بما يوسع أفق الولد، ويجعله يرى بالخيال ما لا تراه العين.