شخصية رمضان

كل عام وأنتِ بخير يا سيدتي العزيزة، وكل رمضان ونحن بخير، سيأتي رمضان ويمر، بمشاقه ولذاته، ونحن في حالة تطرف سنوية معتادة، وقد تكون مفيدة من بعض وجوهها.

فمن جوع شديد وعطش رهيب في 16 ساعة من صيام الصيف، إلى حال من القصف والنسف والعربدة الغذائية تستغرق الساعات الثماني المتبقية من كل يوم رمضاني.

هذا طبعا مضر للصحة، لكنه قد يكون مفيدا أيضا، ولعل هذه الفائدة هي سر جمال رمضان وجاذبيته، رغم ما نتحمل فيه من مشاق.

أما تلك الفائدة فهي أنه كسر لإيقاع الشهور، لنمط الأيام الرتيب المتكرر، لعادات الغذاء والصحو والنوم ومواعيد العمل الثابتة.

كل شيء يتغير في رمضان، وجبة الطعام الرئيسية تتحول حلما من الأحلام، ينتظره المتضورون جوعا بين قيام ونيام؛ قيام يتنقلون من مقعد إلى مقعد، يتفقدون المطبخ كأنهم جنرالات في حرب مصيرية، ينظرون في عقارب الساعة، ويقلبون في قنوات التلفاز؛ بحثا عن بزوغ الأذان المخلِّص.

أما النيام فهم في الحقيقة ليسوا بنيام، إنهم يتناومون، آملين أن يغافلوا الزمن، فيسرقوا دقيقة أو اثنتين لا يشعرون فيهما بالجوع والعطش وقسوة الانتظار.

ورغم أن الانتظار قاس، إلا أنه -ويا للعجب- لذيذ في رمضان، إن وجبة الغداء العادية تكتسي في رمضان هالة سحرية في صيغتها المسماة بالإفطار، كأن الحياة تتكون من أيام، يتحقق في كل يوم منها حلم عزيز المنال، نتعب من أجله ثم نفرح بتحقيقه، ويكون التعب من أجله في حد ذاته لذة وجزءا من الفرحة بتحقق الحلم.

ورمضان شهر احتفالي، وإن كان في الأصل شهر زهد وتعبد، فهو الآن كرنفال ضخم من طيبات الطعام والشراب كما وكيفا، وهو موسم للسهر حتى مطلع الفجر، سواء في المقاهي أو أمام شاشة التليفزيون.

وهذه الضخامة نجدها في العبادة أيضا، واللبيب منا هو من يجمع بين عبادات رمضان ونوافله الممتدة، وبين لذاته وسهراته، فيعمل لآخرته دون أن ينسى نصيبه من الدنيا.

أما إذا تعارض وقت العبادة مع وقت اللهو والمرح، فللعبادة قدسيتها، خاصة في رمضان.

لكنني لا أحب أن أكون من الوعاظ، فلست أهلا لهذا، ولا هي مهنتي، أو حتى هوايتي، ما أنا إلا متأمل يستعرض معكم ظاهرة رمضان من كل جوانبها، لأجيب عن سؤال: لماذا وكيف يبتهج الناس برمضان وهم يتعذبون فيه من الجوع والعطش عشر ساعات أو أكثر في حر الصيف؟

كيف يصير الانتظار المعذب لذة؟

وقد أجبت عن هذه الأسئلة، لكن يبقى أن أضيف «الرضا عن النفس»، الشعور بأنكِ قد أديتِ واجبكِ، وتعذبتِ في سبيل أن تنالي رضا الله سبحانه، إن الصائم ليفخر برائحة العطش الطالعة من فمه، ثم يشعر بعد أن بلله بالماء أن من حقه أن يحتفل بفوزه، فيفرط أحيانا في الطعام والشراب.

أما الجانب الأخير من جوانب المتعة الرمضانية فهو الصحبة، فالناس يتزاورون في رمضان، ويدعون بعضهم البعض على وجبة الإفطار، وأحيانا لسهرة يتناولون فيها السحور، ولعل أبلغ إشارة إلى قوة شخصية رمضان وطغيان حضوره، أننا كعرب عادة نؤرخ للأيام والشهور حسب التقويم الميلادي فنقول:

غدا السبت 15 أغسطس

لكننا بعدها بأسبوع نقول:

اليوم السبت 1 رمضان

ومنذ هذه اللحظة تنتسب الأيام إلى رمضان.

وكل عام وأنتم بخير.