mena-gmtdmp

قال العود

الحمد الله المنان، والصلاة على نبيه العدنان، ما ترقّص طير في السماء، وصفّق بجناحيه إلا وقد هزه وتر رنّان.

وتري.. أنا العود التاريخي البغدادي، عود هارون الرشيد، وعود ألف ليلة وليلة، أنا الذي احتضنتني الجواري، فسرت في خشبي الهامد رعشة باحت بها أوتاري، فطربت قلوب وتمايلت رؤوس، والجارية التي أخذتني في حضنها تشدو بي، وأنا أشدو بها، فتنتثر الدنانير الذهبية، وتعلو الآهات حتى يدركنا الصبح.

أنا عود محمد القصبجي، الذي لحّن «رق الحبيب»، و«امتى ح تعرف امتى» وغيرهما، وارتضى أن يكون حتى وفاته عوادا خلف «الست» أم كلثوم.

أنا عود فريد الأطرش، وسيد مكاوي، ونصير شمة، وحازم شاهين، أنا عود الطالعين في مدرسة العود، وعود السامعين المغرمين.

أنا المتحدث الرسمي باسم موسيقى الشرق، والمعادل الشرقي للكمان، والجدير بأن يكون ندًّا للبيانو.

أنا أجمل عزف منفرد في بلاد المسلمين، المستغني عن آلات مصاحبة، الحاكي الذي يفرض الاستماع الخاشع.

أنا الذي يتسلم اللحن من قلب الملحن، ثم يوزعه على الآلات والنغمات، أنا الذي يحفّظ بي الملحن الغنوة للمطرب، ويتوسط به «الصهبجية»، أي الرفاق في سهرات الأنس والإيناس، الذين يرددون خلفه كلمات الأغاني، جالسين في دائرة نتوسطها: أنا وهو.

أنا الذي حفّظت الأجيال تراث بغداد والأندلس.

ولو سألتموني عن رأيي في «مَغْنَى» وموسيقى اليوم لاستغربتم أني مطّلع على الحديث، متذوق للغرب، كما أنني متحيز لبلادي، ولنفسي طبعا.

أنا أحب موسيقى موزار، وكمنجات فيفالدي، وبيانو بيتهوفن، وأحب أغاني البيتلز وفيروز وعبدالحليم، وبعض أغاني زمنكم هذا.

فانظرن يا فتياتي العزيزات كم أنا عود متحضر، مستنير، محبّ للجمال في كل شيء، وكل عصر وأوان!

واعلمي يا سيدتي أن كل فنان كبير –مثلي- لا يغفل عن الجمال الفني حتى ولو تمثل في ولد طالع جديد يكشف عن عضلاته في الفيديو كليب.

أنا لا أتسرع وأرفضه، فما يقدمه كلاما ولحنا، والصوت الذي حباه به الله، قد يكون جديدا وجميلا.

وأنا إن كنت معتزا بنفسي، أحترم كل الآلات حتى السنطور الفارسي والبُزُق اليوناني، وغيرهما من مستغربات النغم عندنا، بل كل الآلات تطربني لو استنطقتها يد خبيرة، فباحت وأبلغت وأفصحت وأبانت فكان بيانها مسكا وعندليبا شاديا.

أنا أؤمن بديمقراطية الفن والأدب، بعالمية الجمال وصلاحيته لكل زمان ومكان، فنزار قباني لا يلغي أبا نواس والمتنبي، ونجيب محفوظ لا يطرد شكسبير، والجيتار الكهربائي لا يطلق الرصاص على جده الإسباني، وأنا لا يقتلني الجيتار أو يحل محلي، فأنا أنطق بما لا ينطق به، كما أنه يقول ما لا أستطيع أن أقول، وكلانا له مقام رفيع في سلطنة النغم.

وبنفس المنطق، لم يستطع الأورج أن يحل محل البيانو، ولا الكيبورد استطاع أن يمحو الأورج من الوجود.

نحن ديمقراطية، وكلنا نتجاور على مقاعد برلمان الفن والأدب والعلم، فمن تحيز تحيزا أعمى لفن دون آخر، أو كاتب دون آخر، هو حر بالطبع، لكنه ضيق الأفق، وهذا ينعكس على إبداعه لا نقده فقط.

قد تتساءلون: ما للعود والفكر والنقد والفلسفة؟ هذا والله عجيب.

وهل نطقي وأنا من خشب وأوتاري من أمعاء ليس بعجيب؟ ثم لماذا تعاملونني كأني عود فعليّ؟ هل نسيتم كليلة ودمنة؟ لماذا تمنحون ابن آوى القدرة على الكلام وتنكرونها عليّ وتستعجبونها فيَّ؟

فإذا سلمتم بأني عود من المجاز لا من الحقيقة، عود خرافي في الواقع، عود يتكلم، كان من السهل عليكم أن تتقبلوا مني أي كلام، حتى إن رطنت بالإغريقي والسورياني!

وأنا عود ابن عود ابن عود، جدي عود ابن عود ابن عود، جدي الأعلى ابن ألف عود وعود، في ألف ليلة وليلة من ليالي شهرزاد وشهريار، وقد توارثنا في العائلة إلى جانب الغناء والطرب، الحكمة والشعر من حضورنا في سهرات خلفاء عصر العرب والمسلمين الذهبي، حيثُ كان الشعراء والعلماء يتمايلون طربا من صوتي وصوت شاديتي، وهم يتباحثون في مباحث العلم والآداب والفلسفة، لهذا السبب تجدونني عودا فصيحا مثقفا، ومن ملك ذاكرة الماضي امتلك الحاضر والمستقبل.

وعود بلا ثقافة غربية، لن يبدع في فنه الشرقي، وعود ناشئ بلا تراث لا مستقبل له.

هل ترون كم أنا فيلسوف؟ ليت كل الآلات في الشرق والغرب تتعلم مني. ولولا التواضع لقلت «تمجدني».

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.