هل سمعت يومًا عن نعمة الجنون؟
إنها كسر الرتابة، والارتباط الوثيق الأبدي الممل للكلمة بمعناها، للفعل بنتيجته الحتمية أو المحتملة، ذلك الاتساق الرتيب المنظم كصفوف العسكر في مواكب أعياد النصر، وتلك الحرية التي يمنحها الجنون لصاحبه فجأة.
إنه قبل أن يُجَنَّ كان عبدًا أنيقًا، في حلة غامقة ورباط عنق وقور، يصحو في موعد سيده، يقطع نفس الطريق لنفس المكان اليومي، الذي يأتمر فيه بأمر إرادة ليست إرادته، فإذا اختلى بنفسه في الحمام رأى في المرآة شبحًا لرجل كان يحب الحياة والضحك، كان طفلاً طربًا، ثم شابًا مشاغبًا، ثم إذا بالحياة تربطه في العربة، وتنهال عليه بالسياط؛ ليجر العربة في الطريق الممهد المعبّد المستقيم، كالسهم نحو الهدف الذي أبدًا لم يكن هدفه، دائمًا وجد روحه مكبلة على امتداده تجر حملاً لم تختره، وتدور في ساقية كبهيمة مسخرة تظن أنها على صراط مستقيم.
أما حين يجنّ السيد المحترم فجأة، أو ربة البيت المنهكة المقهورة، حين نجنّ، أحدنا أو كلنا، فإن موسيقى لا نعلم من أين تأتي تستخفنا، فنرقص متخلين عن وقارنا، معرضين رأسنا العاري للمطر، حفاة في ثياب خفيفة، نفتح أفواهنا للسماء نحاول أن نشرب المطر، نجري ونقفز، نرقص ونغني تحت المطر، ونصاب بنزلة برد.
وربما أصبنا بما هو أشد. نزلة شعبية مع ارتفاع في درجة الحرارة، ربما تعذبنا أسبوعًا أو أسبوعين، لكننا لن ننسى ما حيينا ليلة المطر المفاجئ، أو صباحية الرعد والبرق، حين تخلينا عن وقارنا، ونزلنا عن عقلنا لقاء لحظة من الجنون.
ومن نعم الجنون على صاحبه فقدان الإحساس بما حوله، إلا ما يعجبه منه، فيسير تحت الأشجار في الشارع لا يسمع إلا تغريد العصافير، بينما الضوضاء تقتل نفسها لكي تُسمع، تصرخ بأعلى أبواق السيارات وشجار سائقيها ونداءات الباعة.
ومن اعتدال مزاج المذهول المبتسم يخبط في الذي أمامه فلا يعتذر؛ لأن عينيه معلقتان بالسقف الأخضر، يستنزل من منبع خفي له حفيف حنان الشجرة، ويبارك الأعشاش التي تجتهد صغار الطير في بنائها. وحين يستدير له من اصطدم به من خلف، وإذا كان الضحية سيدة تكون المصيبة أعظم، فتخبطه على رأسه بحقيبتها وتشفع الضربة بكلمات من المفترض أنها موجعة، إذا بالمبتسم المفتون على بسمته لم يزل، يسير منشرح الصدر ناظرًا إلى أعلى، وربما يصفر كالعصافير، وكأنه لم يرَ ولم يسمع ولم «ينبطح».
ويا سلام لو صاحبت الحالة موسيقى، ساعتها تنقلب النعمة نقمة؛ لأن شحنة الجمال تزيد على الاحتمال.
فإذا كنت يا قارئتي لم تتزوجي بعد، أحذرك من المجانين، مهما بدوا ظرفاء أو حساسين، تقريبًا شعراء وفنانين؛ لأن جنون هؤلاء يبدو وديعًا، بل ممتعًا، إلا أنه جنون خطر!
أقول لك: والأفضل أن تأخذي المجنون المعتدل، الذي يسمع الموسيقى أو الأغنية، فلا يفعل أكثر من أن يصفر أو يغني معها، وربما رقص قليلاً، في حدود المعقول.
يعني إذا تزوجت مجنونًا فليكن عاقلاً قليلاً، وإذا تزوجت عاقلاً فليكن مجنونًا بعض الشيء، وإلا فسدت الحياة الزوجية.