mena-gmtdmp

إنهزام الطبال وانتصار الراقصة

إنهزام الطبال وانتصار الراقصة

 

"الراقصة والطبال" رواية إحسان عبد القدوس قدّمها للسينما المخرج أشرف فهمي والراحل أحمد زكي الذي قام بدور الطبال المزعوم في الفيلم، والفنانة نبيلة عبيد في دور مباهج راقصة الموالد التي تولى الإشراف على أعمالها الطبال حتى يقع في حبها، لكن المال نجح في أخذها بعيداً عنه، فأراد أن يثبت للجمهور أن الطبلة أهمّ من الراقصة، محاولاً أن يقدّم نفسه منفرداً، لكنه انهار على المسرح، وانتهى به الحال إلى الجنون.

ها نحن الآن نشهد أكبر حفلة رقص في العالم العربي، الجميع «عاوز يرقص، عاوز يفرفش»، وكثرٌ هم من يريدون الغناء، المتفرجون أيضاً كثر، فالمقاهي وجزء كبير من الشاشة مفرودة للراقصين والراقصات، منهم من يرقص ليلاً، ومنهم من لا يستطيع الاستيقاظ نهاراً ليقوم بواجب الرقص، فلا يهم، الشاشة تقوم بالواجب.

السينما باتت ترقص، والأغنية راقصة، والشباب يرقصون، والصبايا فوق الطاولات يتمايلن متحررات من أي معنى للستر، والطبل أصبح جزءاً من «الديكور» الذي تحرص عليه المطاعم والملاهي لتحريض الساهرين والسائحين ودفعهم إلى حلبات الرقص.

الموضوع بحاجة إلى محلل نفسي، لكن لا مانع من الإدلاء بتصريح طالما أن الجميع يرون ويسمعون و«يطنشون». فمجموعة أفلام الصيف المعروضة حالياً في صالات السينما تقدم وجبات رقص جماهيري كما فيلم محمد سعد (اللمبي) الى الأبد، وهو الذي يعرض لمجموعة بشرية ترقص كل على ليلاه، ولا يكتفي سعد بالرقص بل يضيف بعض العبارات التي تتناسب وأجواء الفيلم الراقص، وعادة ما توصف هذه التعابير بالسوقية مثل: «بحبك يا ابيض» وما شابه.

أما سعد الصغير فهو يرقص من أعماق ذاته، حرصاً منه على إبراز «مفاتنه» راقصاً على أغنية تحمل عنواناً «رومانسياً» ويمكن وصفه بالواقعي أيضاً «معاك فلوس أحضن وبوس». طبعاً، يتواصل الرقص مع وابل من الكلام الذي يوصف بـ «الشوارعي» أو «السوقي» على اعتبار أن الفيلم شعبي. وعادة هذه النصوص تتقن وتهتم بتقديم شخصية متعاطي المخدرات، وهي تحرص على إبرازه خفيف الظل غالباً ما يطلق (أفيهات) مصدرها (الحشيش) وباقي الأصناف المعنية بتخدير المجتمع، ولذا تفرد السينما المصرية مساحة واسعة لهذه النوعية من الأفلام على اعتبار أنها أفلام الصيف، أو المقاولات، التي تعتمد فيها الجهة المنتجة على الرقص والغناء وجلسات تعاطي المخدرات لتبرير إطلاق النكات في الأفلام.

في زمن ليس بعيداً، كان هناك طبال وراقصة، وكل في موقعه، كان لدى الجمهور متسع من الوقت للتأمل في المشهد الغنائي، فالمقدمة الموسيقية التي كانت حينها تحمي الموسيقي العازف وتعطيه حقه المشروع. أما اليوم، فشخصية العازف غائبة في المشهد الفني. كثرٌ هم العازفون الذين كانت لهم شهرة توازي شهرة المغني، حيث كان لهم جمهور ومصفقون وسط رواد المسارح وذواقة الفن بصفة "السميعة".

حسام رمزي، عازف الطبلة الشهير، الذي اتجه غرباً للحفاظ على موهبته، وحرصاً منه على عدم تقزيمها، وقف الى جانب أشهر الفرق الغربية، كما في العرض الشهير لواحدة من أشهر فرق الروك في الثمانينيات (اللد زيبلن) في عرضها المسمى (كشمير)، بمشاركة جد مميزة من عازفي الكمنجات المصرية بقيادة ضابط الإيقاع حسام رمزي الذي أخرج هذه الآلة (الطبلة) من إطارها الضيق وأخذها الى الفضاء الموسيقي الأرحب، وكان سبقه إلى ذلك أستاذ التجديد في الموسيقى العربية محمد عبد الوهاب حين قدم الطبلة منفردة في أغنية أم كلثوم (فكروني) ليصفق لها الجمهور وكأنه يكتشفها لأول مرة. وهنا، كانت الإشارة الفعلية إلى كيفية تقديم العمل الفني وتسليط الضوء على جماليات قد تكون خفية.

إنتصرت الراقصة وانتهى زمن الطبال، استبدل الطبال بعازف كهربائي الكتروني يعمل على الكبس باليد أحياناً وبدعسة الرجل أحياناً أخرى لتغيير وتيرة الإيقاع وكأنك أمام مجموعة عازفين مختبئين داخل جهاز يطبلون ويطلقون الزغاريد أحياناً. وهناك موهبة أخرى لهذا الجهاز قد تكون أجمل وأهم موهبة ألا وهي التصفيق، فالجهاز يصفق ولا حاجة للمصفقين، طالما ليس هناك من يسمع، أو ليس هناك أعمال  تستحق التصفيق بالأيادي البشرية.

 

شذى حسون  "غجرية" في بلاد العرب

 

إختلط عليّ الأمر بعد مشاهدة فيديو «شو في بينك وبينها» للفنانة شذى حسون. للوهلة الأولى، إعتقدت أن المغنية ظهرت في برنامج «الرابح الأكبر» الذي يعنى بوزن المشاركين فيه، لكن حين سمعت الصوت أعدت الربط بين الصوت والصورة وتذكرت أن حسون من الفائزات في برنامج "ستار أكاديمي".

سمعت الأغنية على موجة الإذاعة قبل أن يتم تصويرها، أو يتسنى لي مشاهدتها كفيديو كليب مصوّر، فالأغنية جميلة وخارجة عن نطاق المعهود الذي بات مكرراً الى حد تداخلت فيه الأغاني فيما بينها، فالكلام الذي يغنى اليوم لا يخرج كثير منه من إطار الحب المستحيل، والعذاب السطحي والمفتعل. «شو في بينك وبينها على طول بتسأل وينها» أغنية اختار المخرج تصويرها لتكون قريبة من اللحن الغجري، وعمل جاهداً لإبراز الجو العام للفيديو من خلال الملابس والشخصيات المصوّرة. ولكن، كما هو واضح، فات المخرج أن يهتمّ بصورة النجمة وتدريبها على الانفعال الذي كان مبالغاً فيه من ناحية الحركة الجسدية ومن ناحية شد الوجه الى درجة أبرزت المطربة وكأنها واحدة من الشخصيات الشريرة في مسلسل «ريا وسكينة»، وعلنا نتذكر هنا أغنية (جنيفر لوبيز) التي ترقص بها على الطريقة الغجرية تحت شجرة في مكان ما، برفقة عدد قليل من الراقصين بفضاء مفتوح لتملأه أنوثة برفقة الموسيقى وخطوات الرقص المتقن عكس ما رأيناه في «شو في بينك بينها»، لكن هذا لن يحصل، كون مخرج الفيديو لا يستطيع أن يميز بين صوت آلة الكلارينيت وآلة الأكورديون، وهو الذي صوّر عازف الأوكورديون على صوت آلة الكلارينيت، وهذا أبسط من أن يحتاج لـ «مخرج» كي يراعي الحد الأدنى من الدقة.

وهنا، لا بدّ من الإشارة الى أن الاتجاه الجديد في الإنتاج يقترب أكثر وأكثر من إضافة الرقص كأداة مساعدة ومساهمة في ابراز النجم، والرقص موهبة منفصلة، فليس كافياً اليوم أن تقف المطربة ملوّحة بيديها على طريقة ماجدة الرومي لأن ماجدة الرومي لديها الإمكانيات الصوتية الكافية.

ولا تحتاج لأن تبهر المشاهد فهو مبهور أصلاً بصوتها. لكن النجمات الجديدات الباحثات عن الشهرة والتميّز، بدون مراعاة الأصول والقواعد الراسخة للفن، أياً كانت، فيجب أن يرضخن، شئن أم أبين،  لمتطلبات السوق، عليهن الالتزام بالشروط المستحدثة: الأناقة والنحافة واللياقة البدنية (وما أدراك ما اللياقة البدنية) وهناك إضافة مطلوبة ألا وهي إجادة التمثيل أمام الكاميرا، لأن جزءاً اساسياً اليوم من تسويق الفنان لأغانيه المصوّرة هو الحاجة لمخرج قادر على إقناع المشاهد بصدقية ما يغني المطرب أو المطربة من خلال الصورة.

وبقي موضوع اختيار اللهجة، فمعظم أغاني شذى حسون تم أداؤها باللهجة اللبنانية، وهنا لا بد من التساؤل عما قدمته شذى للجمهور الذي تبنى موهبتها في العراق والذي احتفل بنجاحها بعيداً عن كل المعاناة التي يشهدها وطنها، فمن المؤكد أن هذا الجمهور يستحق من شذى أن تقدم له مجموعة من الأغاني التي تمسه مباشرة من ناحية اللهجة ومن ناحية المضمون، أليس كذلك يا حسون؟