وديع الصافي... تمهَّل
تعاون بين جاد شويري ووديع الصافي!! لو تركت هذا السطر وحده لوجد طريقه إلى «الانتفاضة» وغيّر شيئاً من الصيغة، قد تكون الأهداف مشتركة للاثنين، وديع الصافي وجاد شويري، فكلاهما يحتاج لـ «البلبلة» هذه الأيام. الزمن غدر بالصافي، وعملية استغلاله من المقرّبين منه مستمرّة وبأشكال مختلفة، منها الادّعاء بعدم قدرته على تغطية عملية علاجه، فلجأ إلى الأشقاء السوريين لطلب النجدة العلاجية، وعرفاناً منه بالجميل قدّم أغنية لسورية.تأتي اليوم هذه «الخبرية» لتدشّن زمناً جديداً من السقوط ولو في داخل من اعتبر أن زمان الأغاني الجميلة باقٍ بشخوصه، وبما أنتج من فنون حفظته أصوات كصوت وديع الذي رفع من شأن الكلمة التي كتبها شعراء لبنان الموغلون في فلسفة الرفض لواقع البشاعة الذي أفرزته الحرب، كتبوا للجمال وللجبال وللراعية السمراء، وللإعمار الذي رفع البيوت المزروعة على سفوح التلال، وللثلج الأبيض المتساقط بخصوصية الوهم المستأثر بعقل اللبناني الذي ترك لصوت وديع أن يفعل ما يشاء في أحاسيسه.
ليست المرّة الأولى التي يظهر بها وديع الصافي متّكئاً على صغار المطربين «مدّعياً» وقوفه إلى جانبهم، ماسكاً أيديهم ليوصلهم إلى شاطئ المغنى الحقيقي، وإن بدا العكس في الكثير من الأحيان، فهم الذين يمسكون بيد الصافي ليقترب من جمهورهم الجديد والمختلف عن ذلك المستمع المغترب الذي فقد اتصاله بالوطن، ولم يبقَ له سوى أغنية من وديع تعيده إلى ربوع الذاكرة. جمعته أغنية إلى نجوى كرم، وإلى معين شريف (الأقرب) إلى وديع، كما وصفه يوماً، وإلى رويدا عطية، كما شارك في البرامج التلفزيونية المخصّصة للشباب، لا بل تشارك الغناء مع مغنٍ إسباني مغمور في بلاده (خوسيه فرناديز) متناسياً موقعه لدى جمهوره الواسع وأنه أحد أكبر مطربي الوطن العربي، واكتفى بجمهور يصفّق لمحاولات هذا المطرب (الغجري) الذي يرطن بعض الكلمات بالعربية والغجرية الإسبانية إلى أن مضى في طريقه واختفى، علّه الآن عاد إلى إسبانيا.
منذ فترة وجيزة، سرت شائعة في بيروت مفادها أن أحد أبناء الصافي يدقّ أبواب النافذين في لبنان من ميسورين وسياسيين يطلب المال لمعالجة والده، وأثار هذا الخبر حمية بعض الصحفيين الذين انبروا للدفاع عن الصافي وتوجيه الإتهام إلى شخص انتحل شخصية واحد من أبناء الصافي، وذهب الخبر ونامت القضية ولم يتم القبض
على المنتحل الذي «أساء» للصافي.
منذ أشهر قليلة وقبل لقاء وديع الصافي الثمانيني بـ «منتحل» لكن من نوع آخر لشخصية مطرب بالمفهوم العلمي والمقصود هو جاد شويري، كان قد ودّع أحد أبرز رفاق دربه وهو الشاعر مارون كرم الذي كتب له مجموعة من أشهر أغنياته ومنها «لا أنت راضي
ولا أنا راضي» وأغنية «اندق باب البيت على السكيت» وغيرهما، فتهافتت وسائل الإعلام لتأخذ من الصافي كلمة في شاعر صادقه يوماً، إلا أن الصافي كان منشغلاً بتحديد الثمن الذي سيدفع له مقابل هذا اللقاء!
موسيقى ورقص (النَوَر) يغزو قنوات «الفيديو كليب»
تغيّرت الإستراتيجيات الفنية لمواجهة التغيّرات أو الأمزجة الطارئة على مشاعر الجمهور المتابع للقنوات المتخصّصة في نقل جديد المواهب إلى الجمهور، الذي بات يجد أن (الرصين) منها بدأ يتبع نهج (الخليع) من القنوات التي عادة ما تقدّم المتوفّر من السطحية المطعّمة بأزياء «وهمية» و(كلمات لا تحمل معنى الكلمات) وشريط الإهداءات الذي يعبّر عن فرط كبير في صرف الوقت واستغلاله في استنباط الألفاظ المعبّرة عن حب
(سائر الليل) إلى (عاشقة النجوم)..
المتنقّل بين القنوات التلفزيونية عليه الحذر هذه الأيام، فلا ضوابط وإن كنتُ من أنصار إزالة الضوابط في الناحية الإبداعية معتمداً على قول فيلسوف سقط اسمه من ذاكرتي: "كي تبدع يجب أن تكون حراً".
هناك الكثير من الحرية في التلفزيون وقليل من الإبداع، قليل من الشعر وكثير من الشعر النسائي الذي يلوح على صوت مطرب (مكتنز) يتأوّه وينوح على فراق الحبيب، وهو محاط بعشرات الفتيات، اللواتي يرتدين أصعب وأضيق أنواع الجينز الذي يعوق حركة الإبداع لديهن، وذلك نابع من مسؤوليتهن لعدم قدرتهن على التناغم والتمثيل على أنهن معجبات بالفنان المكتشف لأصناف جديدة من (الجل) الذي يجعله يبرق تحت الضوء المخصّص لتلميع الفنان المتأبّط بجهاز المايكروفون ليوصل معاناته من خلاله. تتبدّل الوجوه والصورة واحدة،
لا فرق بين إيقاع وآخر، ولا فرق بين أنواع الجينز ولا جديد على تلويح الشعر.
ها هي القنوات التي صرفت الملايين على استنهاض شكل جديد للنجم، تفتح أبوابها لمطربي الحافلات الصغيرة (مايكرو باص) ولمطربي القوّات المسلّحة التي يحلو لها السهر والتمتّع برقص (الغجر) المعروف عنهم في البلاد العربية بـ (النَوَر). وهم فئة اجتماعية لها خصوصية في طريقة عيشها، وجزء من سبل عيشها يعتمد على الرقص والغناء. ويجده البعض ممتعاً، لكنه ظل في إطاره الضيّق ولم يخرج منه الكثير إلى العلن في السابق. إلا أن ظاهرة انتشار المطربة سارية السواس قد تدفع بهذا النوع من المغنى إلى التمركز في المراتب الأولى خاصة بعد أن بدا أن هناك تقبّلاً شعبياً وإعلامياً لهذا النوع من الموسيقى الذي تصاحبه طريقة مختلفة بالرقص.
انعطاف نحو الأسهل والمجاني يجذب أصحاب القنوات، فالهواء يحتاج لملء الفارغ بالمناسب، وغير المناسب، المهم أن يبقى الهواء في الملعب والمطلوب صورة. صورة متحرّكة، متحرّرة. صورة تمنعك من أن تغمض عينيك.
نور مهنا الضرورة.. مضرّة
مناضل هذا الفنان وسط محدودي الموهبة، واسعي الشهرة، أصحاب الأموال المدعومين من شركات الإنتاج التي تبذل لأجلهم الغالي والرخيص، لتظهرهم بأحسن حال، وفي غاية الرقة والجمال.
نراه يصوّر أغانيه على مسرح خال من الجمهور، وكأنه مستأجر لساعات محدودة. فلا وقت للإعادة والإفاضة وترتيب الأخطاء. فالحركة نفسها تتكرّر عند كل مطلع موسيقي يستدير المهنا ليتحوّل إلى مايسترو يدير الموسيقيين، ويتركهم لمصيرهم حين يغني للكراسي الفارغة في المسرح!
نور مهنا الذي جدّد حياة أغنية «ابعتلي جواب» وحوّلها إلى أغنية شعبية غاية في الطرب، وأطلق لصوته العنان في أغنية «وحشتني» لتصبح على كل لسان، يمدّ يده اليوم لأغان قد تكون «جميلة»، تسمع ولا تحفظ، كونها ليست بقدرة صوته الجهور، المليء بكل مقوّمات الطرب من نطق، وقدرة على الانفعال والتعامل مع الكلمة وهي الأساس في فكرة المغنى الذي يبعث على الطرب، ويجبر السامع على احترام المادة المتسرّبة عبر إحساسه.
ماذا لو استمرّ نور مهنا مطرباً يؤدي الأغاني الجميلة من التراث، وما تيّسر من ألحان تليق بصوته؟ ألسنا بحاجة إلى هذا النوع من المطربين؟ الساحة لا تحتاج إلى مزيد من «الميول الطربية» بل إلى أصوات تعيد الدفة، تضع الأشياء في نصابها، وهذه الظاهرة موجودة اليوم في عالم الأغنية الغربية، كونها المرجع لجمهورنا... فكبار الفنانين لا زالوا يقدّمون مسارحهم الغنائية دونما تنازلات، مراهنين فقط على الذوق، ويبدو أن ثمّة وضعاً مشابهاً في بلادنا... فحسب الإحصائيات ما زالت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز تتصدّر المبيعات الغنائية.