الدرس‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭!‬

سعدية‭ ‬مفرح
سعدية‭ ‬مفرح
سعدية‭ ‬مفرح

لا‭ ‬أكاد‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬قد‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬تحرير‭ ‬الكويت‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬العراقي‭ ‬الغاشم‭ ‬الذي‭ ‬تعرضت‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬أغسطس‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1990‭. ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬أصبح‭ ‬تاريخاً‭ ‬يُروَى،‭ ‬وأنني‭ ‬كنت‭ ‬أحد‭ ‬شهود‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬الآن‭ ‬بعيداً‭ ‬جداً‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أعيشه‭ ‬بتفاصيله‭ ‬الدقيقة‭ ‬المريرة‭. ‬
وللزمن‭ ‬حيله‭ ‬الكثيرة‭ ‬الغريبة‭ ‬في‭ ‬إقناعنا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬نود‭ ‬الاقتناع‭ ‬به‭ ‬أحياناً‭ ‬رغم‭ ‬معرفتنا‭ ‬أنه‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة‭. ‬كلما‭ ‬رأيت‭ ‬ابنة‭ ‬أخي‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬الآن‭ ‬تبدو‭ ‬صبية‭ ‬ناضجة‭ ‬أمامي،‭ ‬أصابتني‭ ‬قشعريرة‭ ‬من‭ ‬سرعة‭ ‬مرور‭ ‬الزمن‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أتبينه‭.‬
تجتاحني‭ ‬الذكرى‭ ‬فيجتاحني‭ ‬بالتزامن‭ ‬معها‭ ‬شعور‭ ‬لا‭ ‬أعرفه؛‭ ‬كنهه‭ ‬بمعنى‭ ‬الوطن،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬اقتراحات‭ ‬المعجم‭ ‬ومصطلحات‭ ‬السياسة‭ ‬والقانون،‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬شغاف‭ ‬القلب‭ ‬والوجدان‭ ‬والحنين،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ ‬توصلت‭ ‬لمعرفة‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬كما‭ ‬عشته‭ ‬أثناء‭ ‬الاحتلال‭ ‬حيث‭ ‬تجاوزت‭ ‬المعنى‭ ‬اللغوي‭ ‬الحرفي‭ ‬ليكون‭ ‬وجودي‭ ‬كله‭ ‬هو‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقي‭ ‬الوحيد‭. ‬
في‭ ‬تلك‭ ‬الشهور‭ ‬السبعة‭ ‬العصيبة‭ ‬التي‭ ‬بقيت‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬أواجه،‭ ‬ككثيرين‭ ‬مثلي،‭ ‬مجهولاً‭ ‬لا‭ ‬نعرفه؛‭ ‬حيث‭ ‬كنا‭ ‬نحسب‭ ‬الوقت‭ ‬بالدقائق‭ ‬والساعات‭ ‬والطلقات‭ ‬وأصوات‭ ‬الطائرات‭ ‬والدبابات‭. ‬وبعدد‭ ‬الشهداء‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يرتقون‭ ‬يومياً‭ ‬فيتركون‭ ‬في‭ ‬حلوقنا‭ ‬غصة‭ ‬عليهم‭ ‬وعلينا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬بقينا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الشك‭ ‬بوجودنا‭ ‬كأحياء‭. ‬
كانت‭ ‬الحقيقة‭ ‬الوحيدة‭ ‬الواضحة‭ ‬أمامي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬السوداء‭ ‬هي‭ ‬حقيقة‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬الدفاع‭ ‬عنه؛‭ ‬لأنه‭ ‬الوجود‭ ‬الثابت‭ ‬مهما‭ ‬حدث‭ ‬له،‭ ‬ومهما‭ ‬غاب‭ ‬اسمه‭ ‬بفعل‭ ‬فاعل‭ ‬أراد‭ ‬إخراجه‭ ‬من‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬فوجده‭ ‬متجذراً‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬
تمر‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬ذكرى‭ ‬التحرير،‭ ‬وتعاودني‭ ‬الذكرى‭ ‬القديمة‭ ‬المريرة‭ ‬التي‭ ‬عشت‭ ‬تفاصيلها‭ ‬المشبعة‭ ‬برائحة‭ ‬حرائق‭ ‬آبار‭ ‬النفط،‭ ‬فأكاد‭ ‬أشم‭ ‬الرائحة‭ ‬الآن،‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬الأطفال‭ ‬يرفعون‭ ‬الأعلام‭ ‬مبتهجين‭ ‬بمسيرات‭ ‬الفرح‭ ‬وأناشيده‭ ‬الحماسية،‭ ‬فأعود‭ ‬لأوراقي‭ ‬القديمة‭ ‬لأفتش‭ ‬بينها‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬كما‭ ‬تجسد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وبقيت‭ ‬صورته‭ ‬في‭ ‬صفتها‭ ‬الأجمل‭ ‬بسجل‭ ‬الشهداء‭ ‬والشهيدات‭. ‬
أقلب‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬تنشرها‭ ‬الصحف‭ ‬بمناسبة‭ ‬الذكرى،‭ ‬وأحاول‭ ‬أن‭ ‬أخمن‭ ‬مصائرهم‭ ‬لو‭ ‬بقوا‭ ‬معنا‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬في‭ ‬نفق‭ ‬الذكريات‭ ‬الطويل‭ ‬والممتد‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬ونيف‭ ‬من‭ ‬الزمن‭. ‬لكنهم‭ ‬أحياء‭ ‬عند‭ ‬ربهم‭ ‬يرزقون،‭ ‬وعداً‭ ‬حقاً‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لمن‭ ‬استشهد‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬الوطن‭. ‬فما‭ ‬عنا‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬بقينا‭ ‬أحياء‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬نعيش‭ ‬الذكريات‭ ‬ونحاول‭ ‬أن‭ ‬نقتنص‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعكر‭ ‬صفوَ‭ ‬أيامِنَا‭ ‬الجديدَ،‭ ‬فلا‭ ‬نكاد‭ ‬نستطيع‭ ‬استخلاص‭ ‬الحلو‭ ‬من‭ ‬المر‭ ‬ولا‭ ‬الصعب‭ ‬القاسي‭ ‬من‭ ‬الهين‭ ‬اللين‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الدرس‭ ‬الكبير‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬مستمراً،‭ ‬وقليلون‭ ‬منا‭ ‬من‭ ‬استوعبوه‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭! ‬
كل‭ ‬عام‭ ‬والكويت‭ ‬الغالية‭ ‬وطن‭ ‬حقيقي‭ ‬كبير‭ ‬رغم‭ ‬صغر‭ ‬المساحة‭ ‬الجغرافية‭ ‬التي‭ ‬يقع‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬الخريطة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأوطان‭ ‬تصنع‭ ‬أحجامها‭ ‬الحقيقية‭ ‬بما‭ ‬تعيشه‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬وما‭ ‬تجتازه‭ ‬من‭ ‬محن،‭ ‬وما‭ ‬يبذله‭ ‬شعبها‭ ‬في‭ ‬سبيله‭ ‬من‭ ‬دماء‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭ ‬تبدو‭ ‬الكويت‭ ‬كبيرة‭ ‬جداً‭ ‬جداً‭!‬