الهوى العذري

إكرام عبدي
إكرام عبدي
إكرام عبدي

تغريني عادة الإقامة في جغرافيا الشعر الغزلي العذري "العفيف" "الطاهر"؛ كلما خنقتني جغرافيات سياسية واقتصادية تقضم حميميتنا وعزلتنا وذبذبات أنفاسنا، وأصيخ السمع لنقرات مطر شعري عذب يتغنى بحب قصي، ويهيم في صحراء الشطح والجنون البوهيمي، أنصت لوشوشات عشق خبيئة لا نطولها إلا بالمجاهدة والمكابدة، شعر يغسل أرواحنا من أدران اليومي، أشبه بصلاة وثنية مجنونة. 
يقول مجنون ليلي:
أراني إذا صليتُ يمّمْتُ نحوها بوجهي وإن كان المصلي ورائيا. 
وما بي إشراك، ولكن حبها كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا.
تغريني تلك القيمة الأنثوية، وسهام الألم واللوعة والصبابة التي تنحت لذة الفرح في جسد العاشق، مثلما تُحرق الأقداح لتُسكر الأبدان، يغريني ذاك الخلود الجلجامشي العاشق الذي لم ينطفئ عبر الأزمان، وذاك الصعب لبلوغ المنى، والسفر في زمن مجهول لانهائي مستحيل، زمن عصي على القبض كمثل قصيدة متمنعة، زمن يقول عنه المتنبي:
أريد من زمني ذا أن يبلّغني ما ليس يبلغُه من نفسه الزمن. 
يغريني ذاك العشق "المؤمثل" والوجد الصوفي، والسفر الروحي الذي لا يكتمل، والتوق الجمالي لكشف المحجوب، وتلك القدرة المذهلة للإفلات من شيخوخة الزمن. 
يقول جميل بثينة: 
وأنت كلؤلؤة المرزبان    بماء شبابك لم تعصري
قريبان مربعنا واحد    فكيف كبرتُ ولم تكبري؟
يغريني ذاك الترحل الصحراوي المضمخ بعطر الغزل، والعطش الذي لا يرتوي، عطش للحب للجمال للعشق للحياة... 
يقول قيس بن ذريح:
وللحائم العطشان ري بريقها     وللمرح المختال خمر وسكر.
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها كما هش للثدي الدرور وليد.
ويؤلمني سطوة كائنات اجتماعية سياسية ممسوخة تضرب رقاب الإبداع والجمال بسيوف الرقابة، وذاكرة فحولية انتشت طويلاً بتأليه ذاتها وتضخيم نرجسيتها، جافت هذا الشعر العذري لرقته وهلهلته ورهافته وغنائيته، لينتحب في عزلته وحيداً يندب حظه العاثر، ويلاقي نفس معاناة مريديه من قيس بن الملوح وجميل بثينة... بحجة "ضعفه" و"وهنه" الجمالي والبلاغي.
يؤلمني صمت ليلى ولبنى وبثينة... وغيرهن من النساء المعشوقات آنذاك عن البوح بعشقهن "العفيف" "الطاهر"، وصراخ الخنساء في الرثاء وشق الجيوب
وإن كنت أستغرب "عذرية" شعر في وصف القوام الممشوق والأرداف الضامرة للمحبوبة، لنتساءل هل لنا أن نتحدث عن "عذرية" الشعر الغزلي العذري؟
وفي زمن كهذا يتنكر للحب بل يهجره، لابأس إن لذنا بالشعر العذري كتميمة لنا من موتنا الرمزي، كي نكثف من نعومة هذا العالم اليباب؟، عالم يصطرع بالحروب والصراعات والموت المجاني والمضاربات... لتتدفق مياه العشق من جديد في حياة يبست عروقها وملت الرتابة والتكرار، قد يرمون هذا الشعر بسهام التشكيك، قد يتهمونه بالانتحال، قد "يؤسطرون" شخصياته العاشقة الولهانة، قد يتجاهله الأصمعي حين هم تقعيد اللغة العربية، لكنه ذائقة جمالية وفنية مرهفة وقيمة إبداعية، في ضيافتها، نشرع كل الأبواب للهوى ونوصدها في وجه كل جبابرة الموت والظلام.