ادفع بالتي هي أنصح!

أحمد العرفج

 

يُركِّز الدارسون لفِكر العَالِم الجليل "رجاء بن حيوة" -رحمه الله-، على طريقته في الدعوة، من خلال انتهاجه أصلين هما:
1- تقديره لطبيعة الإنسان، من حيث ميله الغريزي إلى الانحراف وحب ارتكاب المعاصي، وهذا التقدير يتطلَّب من الداعية والموجِّه؛ المخاتلة لاستدراجه إلى الحق..!
2- تقديره لظروف السلطان النفسية، وامتعاضه –أحياناً- من الموعظة، ما يستدعي الكثير من النباهة..!


وللحيلة أثرها البالغ في رد المُعاند إلى الحق، وتاريخنا "البشري" حافلٌ بما يستجلي ذاك الأثر، وفي هذا المجال يُروى أن أحد السلاطين رأى رؤيا، فاستدعى مُفسِّراً للأحلام فقال له: (كل أهلك سيموتون قبلك)، فطرده. ولما استقدم شخصاً آخر حكيماً، عبّر له بما لا يصدم مشاعره بقوله: (أنت أطول أهلك عمراً)، فكافأه! لو نظرتَ إلى تفسير الرواية، لوجدتها تتَّحدُ في الشرح، وتختلف في اللفظ، ولكن لمّا اختلفت الوسيلة اختلفت النهاية..!


ويُروَى أن أهل اليونان، هُوجموا ذات زمن، فحاروا في أمر أنفسهم، وقالوا: (نقول للرومان ساعدونا مثلما ساعدناكم من قبل)، فقال عقلاؤهم: إن هذا القول يثيرهم، ويُشعرهم بلونٍ من المن، فيُحبَط مفعول المعروف، بل نقول لهم: (طالما ساعدتمونا، فاستمروا، وإن شعباً عظيماً كشعب الرومان؛ لن يبخل علينا بشيء)، فنجحت الفكرة وتحقَّق النصر.. وقد رُويَ أنه خلال فترة حصار المسلمين -إبان الحروب الصليبية-، كان "صلاح الدين" يُرسِل إليهم النجدة؛ عن طريق بعض رجاله، ولكنه كان يُلبسهم زي النصارى، وبأيمانهم الصلبان تمويهاً، وقد نجحت الخطة أيضاً..!


وبالعودة إلى نهج العالم "رجاء بن حيوة"، نجده أدرك منذ البداية أن للسلطان سكرة، قد تُنسيه ماضيه المألوف، ليكون شخصاً آخر بعد السلطة، فالحرس ينتشرون في كل اتجاه، والأبواب تُفتَح حين الإياب، وتُغلَق حين الذهاب، وعدسات المصوِّرين تُلاحقه حيثما سار، وهذه الشبكة من الأسوار، تجعل السلطان يعيش في غابةٍ رمادية، تنعدم فيها فضيلة التوازن، وهذا يجعل نصيحة السلطان، أو تمرير الموعظة له، تتطلّب القفز بمهارة على مجموعة خطوط الغابة! وقد فطن الإمام "ابن القيم الجوزية" إلى "مكانة السلطان"، وسكرة السلطة، فقال: (كثيرٌ من الناس يطلب من صاحبه - بعد نيل درجة الرياسة - الأخلاق التي كان يعامله بها قبل الرياسة، فلا يُصادفها، فينتقص ما بينهما من المودة، وهذا من جهل الصاحب "الطالب للعادة"، فهو بمنزلة مَن يطلب من صاحبه إذا سكر، أخلاق الصاحي، وذلك غلط، فإن للرياسة سكرة كسكرة الخمر أو أشد، ولو لم يكن للرياسة سكرة، لما اختارها صاحبها على الآخرة الدائمة الباقية، ومُحال أن يُرى من السكران أخلاق الصاحي وطبعه، ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه؛ بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب الليِّن، فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمرٌ مطلوب شرعاً، وعقلاً وعُرفاً، وهكذا كان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - يُخاطب رؤساء العشائر)..!


يقول إمامنا "ابن القيم" في قراءةٍ لخُطى أئمة أفاضل؛ على طريق العلاقة المثالية بين الحاكم والمحكوم: (تأمَّل امتثال موسى - عليه السلام - لِمَا أُمر به، وكيف قال لفرعون على لسان ربه: (هَلْ لَكَ إِلىَ أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى)، فأخرج الكلام مخرج السؤال والعرض، لا مخرج الأمر..!


هكذا تكون النصيحة، ونصيحة السلاطين فَنٌّ لا يُجيده إلا الذين علموا.. وقد رُوي عن الحاكم في المستدرك من حديث "عياض بن غُنم الأشعري" قال: (من كانت له نصيحة لذي سلطان، فلا يُكلّمه بها علانيةً، وليأخذ بيده فليخْلُ به، فإن قبِل، فبِهَا، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه والذي له)..!


ويقول "ابن الجوزي": (ينبغي لمَن وعظ سُلطاناً؛ أن يُبالغ في التلطُّف، ولا يُواجهه بما يقتضي أنه ظالم، فإن السلاطين حظُّهم التفرُّد بالغلبة، فإذا جرى نوع من التوبيخ لهم، كان إذلالاً، وهم لا يحتملون ذلك)..!
في النهاية أقول: ما أحوج الدعوة إلى الأمراء والعلماء، أُمرَاء يطلبون النصيحة ولا يستكبرون، وعُلمَاء ينصحون ولا يفضحون.. هكذا تكون اللباقة في النصح والإرشاد، تأتي على شكل قطعة سكر، تذوب بطريقة زئبقية في الماء، فتتركه حُلواً، وتتوارى عن الأنظار والأبصار..!!