كثير من الأمهات يتوقفن ليسألن أنفسهن: هل طريقتي في التعامل مع طفلي تساعده على بناء شخصية واثقة وقوية؟ وهذا ليس بغريب، خصوصاً أننا نعيش في زمن تزداد فيه الضغوط الأسرية والاجتماعية، والتربية لم تعد مجرد توفير الطعام والملبس والتعليم فقط، بل أصبحت مسؤولية شاملة تتعلق بكيفية إعداد إنسان إيجابي متوازن، قادر على مواجهة الحياة بثقة ومرونة.
في هذا التقرير يشرح الدكتور ياسين الحديدي أستاذ التربية والصحة النفسية للطفل الأساليب التربوية الإيجابية التي تساعد على بناء شخصية قوية للطفل، ويوضح الركائز الأساسية التي تعتمد عليها هذه الشخصية.
التربية الإيجابية استثمار في المستقبل

- التربية الإيجابية ليست مجرد "نظرية تربوية" بل تعني أسلوب حياة، يزرع في الطفل الثقة والقدرة على مواجهة العالم.
- التربية ليست سباقاً نحو الكمال، بل رحلة مليئة بالحب والتعلم، تكبرين فيها أنتِ وطفلك معاً.
- نتائج التربية الإيجابية على الطفل، تمنح الأم والأب راحة نفسية لأنهما يريان ثمرة جهودهما في شخصية طفل متوازن.
- هذا الطريق طويل، لكن خطواته بسيطة: كلمة تشجيع، حضن دافئ، خيار صغير تمنحينه لطفلك، أو لحظة لعب مشتركة.
- كل هذه التفاصيل الصغيرة تبني مع الوقت شخصية كبيرة، قادرة على أن تكون قوية ولطيفة في آن واحد.
- هل تعلمين أن واحداً من كل خمسة أطفال ومراهقين حول العالم يعانون من مشاكل نفسية، مرتبطة بطريقة التربية والظروف الأسرية؟
- هذا الرقم وحده كافٍ ليدفعنا للتفكير بجدية في دورنا كأمهات وآباء، وكيف يمكن أن نحمي أطفالنا من هذه التحديات عبر أسرة داعمة.
- التربية الإيجابية تقلل السلوكيات العدوانية لدى الأطفال بنسبة تصل إلى 40%، مقارنة بالتربية القائمة على العقاب.
- وهذا دليل على أن الاحترام والرحمة يزرعان في الطفل قوة داخلية تدوم مدى الحياة.
ركائز الشخصية الواثقة القوية

أولاً: اعطه الحرية فتُبنى شخصيته المستقلة
الطفل مثل البذرة، يحتاج إلى أرض خصبة ورعاية، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى مساحة لينمو بحرية، هنا يأتي مفهوم الحرية الموجهة، أي أن تمنحي طفلك الفرصة لاتخاذ قرارات صغيرة تناسب عمره، لكن مع توجيهك غير المباشر.
الأطفال الذين يكبرون في بيئة توفر لهم حرية مقترنة بالتوجيه يصبحون أكثر إبداعاً وثقة بالنفس، وأقدر على حل المشكلات، الحرية الموجهة لا تعني الفوضى، بل أن تكوني حاضرة من دون أن تتحولي إلى متحكمة في كل التفاصيل.
مثال عملي؛ إذا أراد طفلك اللعب قبل إنهاء واجباته، يمكنك أن تمنحيه خيارين: هل تفضل أن تنهي نصف الواجب ثم تلعب، أم تلعب 15 دقيقة فقط ثم تكمل الباقي؟ بهذه الطريقة، يتعلم أن القرار بيده، لكن في إطار محدد.
ثانياً: الانضباط الإيجابي يقوم بتعزيز الثقة
كثير من الأمهات يخلطن بين الانضباط والعقاب، بينما الفرق كبير؛ الانضباط الإيجابي يقوم على الاحترام والتواصل بدلاً من الخوف، الهدف منه تعليم الطفل المسؤولية والقدرة على ضبط النفس، وليس إخافته.
طرق الانضباط الإيجابي تشمل:
- وضع قواعد واضحة وبسيطة مفهومة للطفل.
- استخدام التعزيز الإيجابي، أي مدح السلوك والمحاولة الجيدة، بدلاً من التركيز فقط على الخطأ.
- السماح للطفل باختبار “العواقب الطبيعية” لسلوكه، مثل أن يتعلم أن نسيان حقيبته يعني عدم تمكنه من أداء الدرس في المدرسة.
ثالثاً: دفء الأم تأثيره طويل المدى
لا شيء يعادل دفء الأم في حياة الطفل، الحنان ليس مجرد شعور لحظي، بل هو أساس يبني عليه الطفل شخصيته على المدى الطويل.
إحدى الدراسات التي تابعت الأطفال لعشر سنوات وجدت أن الأطفال الذين تلقوا دفئاً عاطفياً من أمهاتهم في سن صغيرة، كانوا أكثر إبداعاً ولطفاً وانفتاحاً عند بلوغهم سن المراهقة.
الدفء لا يحتاج إلى مجهود مادي، بل يظهر في تفاصيل صغيرة مثل:
- ابتسامة في الصباح.
- حضن عند العودة من المدرسة.
- كلمات تشجيع حتى لو ارتكب الطفل خطأً.
هذه اللحظات البسيطة تزرع في قلب الطفل شعوراً بالانتماء والأمان، وتمنحه قاعدة صلبة ينطلق منها ليواجه تحديات الحياة.
أدوات عملية مدعومة بالبحث

العلم لم يترك الأمهات وحدهن أمام هذه المهمة الصعبة، بل طور برامج ومهارات تساعد على جعل التربية أكثر فاعلية
من أبرز هذه الأدوات:
برنامج التربية الإيجابية (Triple P)
يُعتبر من أكثر البرامج التربوية انتشاراً حول العالم، ويقدم استراتيجيات عملية لمساعدة الأهل على:
- تشجيع السلوك الإيجابي.
- التعامل مع التحديات السلوكية من دون صراخ أو عقاب قاسٍ.
- بناء علاقة أكثر دفئاً مع الأطفال.
مهارات PRIDE
وهي خمس خطوات يومية يمكن أن تغير العلاقة مع طفلك:
Praise – المدح المحدد: امدحي الفعل الإيجابي بوضوح.
Reflect – التعاطف: كرري كلمات الطفل لتظهري أنك تستمعين.
Imitate – المحاكاة: شاركيه في اللعب بنفس طريقته.
Describe – الوصف: علقي على ما يفعله من دون تقييم.
Enjoy – الاستمتاع: اظهري سعادتك بقضاء وقت معه.
هذه المهارات البسيطة تجعل التواصل مع الطفل أكثر عمقاً، وتمنحه شعوراً بالثقة والاهتمام.
التحديات اليومية للأمهات

كل هذا جميل، لكن هل وقت الأمهات يسمح؟ الحقيقة أن ضغوط الحياة، العمل، المسؤوليات المنزلية، وحتى الإرهاق النفسي، تجعل تطبيق التربية الإيجابية تحدياً كبيراً.
من أبرز التحديات:
- ضيق الوقت: الأم قد تجد صعوبة في تخصيص وقت نوعي للطفل.
- الضغط النفسي: التوتر يجعل الاستجابة للطفل أكثر عصبية.
- غياب الدعم الأسري: بعض الأمهات يقمن بكل المسؤوليات وحدهن.
الحلول الممكنة:
عشر دقائق فقط من وقت نوعي مع طفلك يومياً قد تُحدث فرقاً كبيراً.
ممارسة تمارين تنفس أو استرخاء سريعة، تساعد الأم على ضبط انفعالها قبل مواجهة الموقف.
طلب المساعدة من الزوج أو أحد أفراد العائلة عند الحاجة، فالتربية مسؤولية مشتركة.