يقول تعالى: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ»
يخاطب الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية الكريمة "أم موسى" عليه السلام التي انجبت كليم الله ونبيه، يخاطبها في النص القرآني بصفة الأمومة التي كرمها بها الله سبحانه وتعالى فلم يكن وليدها مولودا عاديا بل كان نبيا مرسلا.
وقد كان أتباع فرعون مصر وجنوده في ذلك الزمان يخشون من نبوءة كُهان ذلك العصر بأن مُلك فرعون سوف ينتهي على يد مولود من بني اسرائيل.
* لذلك أمر الطاغيه الجبار "فرعون" وزيره "هامان" وجنوده بأن يقتلوا كل مولود جديد إذا تبين أنه ذكر.
ولما قل عدد رجال بني اسرائيل وكانوا هم العمال والخُدام أشارت حاشية فرعون عليه أن يجعل عاما للسماح يترك فيه المواليد ثم يقتلوا في العام الذي يليه وهكذا.
وولدت السيده "يوكابد" ابنها هارون في عام السماح ثم شاء الله سبحانه وتعالى أن يرزق هذه الأسرة بمولود جديد ولكنه ليس ككل المواليد إنه نبى مرسل .
وكان هذا الحمل الجديد محفوفا بالمخاطر وكانت يوكابد أو أم هارون تعلم أن العام القادم هو عام قتل المواليد فخافت على الجنين الذي في أحشائها وإتفقت هي وابنتها الكبرى على إخفاء أمر حملها...
وكانت البنت لأمها خير معين وكلمة السر فخبأت أمر حمل أمها وتولت هي شراء حاجيات البيت الخاصة من الخارج، ولازمت الأم" يوكابد" المنزل ولم تكن تخرج إلا بالملابس الفضفاضه الواسعه التي لاتكشف أي شيء عن امر حملها الجديد.
الحمل الموعود
وقبيل الموعد المحدد لولادة الأم الصابرة بدأت تستعد لهذا الحدث وقلبها يرتجف من شدة الخوف أن تراها أحد عيون الطاغيه فرعون وساعدتها إبنتها القريبة إليها والمعينة لها على ولادة طفلها الجديد دون صوت ولا إزعاج.
وتمت ولادة الطفل بسلام وبدأت مرحلة جديدة في حياة هذا الطفل الوليد وأمه الصديقة المؤمنة التى ولدته وهى تعلم أن حياته مهددة بالخطر إذا رآه أو حتى سمع صوته أحد أتباع فرعون .
بشارة بالمولود الجديد
وقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى تلك الأم الصابرة المحتسبة بوحي الإلهام لا بوحي النبوة، أن تحفظ هذا المولود الجديد الذى أُطلق عليه اسم "موسى" فى صندوق خشبى له فتحات وثقوب تساعد المولود الجديد على التنفس، تمهيداً لأمر ما سوف يحدث لهذا المولود .
وقد جاء وحي الله لهذه الأم المؤمنة "يوكابد" في آية معجزة من آيات القرآن الكريم... ويقول عبد الله بن عباس، الصحابى الجليل، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى دعا له رسول الله بالتفقه فى الدين وأطلق عليه الصحابة "ترجمان القرآن" يقول عن هذه الآية الكريمة أنها جمعت بدائع الايجاز والاعجاز فيقول تعالى:
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"
فقد جمعت هذه الآية بين "أمرين، ونهيين وخبرين ، وبشارتين"
أما الأمران فهما (أرضعيه ، وألقيه) وأما النهيان فهما (لاتخافي، ولاتحزني) وأما الخبران فهما (أوحينا وخفت)......
وأما البشارتان : (إنا رادوه إليك) البشارة الأولى و(جاعلوه من المرسلين) البشارة الثانية فما أروع إعجاز القرآن الكريم وجميل بيانه....
وعندما أرضعت أم موسى ولدها وأطاعت أمر ربها وألقته في صندوقه الخشبى.ثم أفلتت الحبل الذى كان مربوطاً بالصندوق تنفيذاً لأمر ربها وطاعة له ، أبلغت ابنتها أن تتبع آثار أخيها دون أن يراها أحد .
وسبحان مقدر الأقدار الذى بعث الصندوق الخشبى الى آخر مكان قد يتوقع الإنسان أن يذهب إليه .
لقد أخذه تيار نهر النيل إلى قصر فرعون.
والتفت حاشية فرعون حول هذا الصندوق الخشبي الذى رسا وأوصلوه الى سيدة القصر السيدة آسيا.
التي سرعان مافتحته وملأتها الدهشة حيث وجدت طفلاً صغيراً داخل الصندوق.
فتنت السيدة أسيا بهذا المولود وأحبته حباً كبيراً حيث يؤكد المفسرون أن السيدة آسيا لم تنجب إلا بنات فقط، ويذهب البعض أنها لم تنجب على الإطلاق .
بحثت السيدة آسيا لهذا الطفل الجديد عن المراضع لتسد جوع هذا الصغير.إلا أن هذا الوليد رفض كل المرضعات. ولم يكن يتذكرإلا ثدي أمه الحنون التي أطاعت أمر ربها وتحملت فراق وليدها الحبيب وكاد قلبها أن ينفطر حزنا لولا أن ربط الله على قلبها. لتكون من المؤمنين. وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
"وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون المؤمنين"
قرة عين أم موسى
وتراقب أخت موسى المشهد من بعيد وتدل حاشية الملكة على مرضعة فيعود الوليد مرة أخرى إلى أمه الحنون ....يقول الله تعالى :
"وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لايشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل .....".
وتأتي النتيجة الطبيعية لهذه السيدة المؤمنة ويقول لها النص القرآني:
«فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ»
حقا إن وعد الله حق لكل من أطاع أمره وتجنب نواهيه حتى وإن بدت لنا بعلمنا القاصر وفهمنا المحدود أنها أوامر قد تبدو صعبه لنا إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل لنا الخير كل الخير في اتباع ما أمر وإجتناب مانهانا عنه.
في ظل آية الدعاء وأهمية ووجوب طلبه من الله
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)
لو أمعنا النظر في هذه الآية لأدركنا عجباً فكم من الآيات في سورة البقرة التي ورد فيها قول الله تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) وهكذا بينما في هذه الآية لم يقل سبحانه «قل» بل قال فإني قريب. وما ذلك إلا لأهمية الدعاء وأهمية ووجوب طلبه من الله عز وجل لأن الدعاء هو العبادة فعلى العبد أن يتوجه لربه عز وجل في كل دعواته أيا كانت هذه الدعوات فإن الله يحب دعوة العبد ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم وليحذر المسلم كل الحذر أن يتوجه بسؤال غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، من صاحب قبر أو سيد أو عزة، فذلك شرك محبط للعمل نسأل الله السلامة والعافية.
من هدي النبوة الغيبة وعظيم خطرها
قال صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هي ذكرك أخاك بما يكره قال إن كان في أخي ما أقول. قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
وفي هذا الحديث يحذر المصطفى أشد التحذير من الغيبة ويبين عظيم خطرها وأكد على أمر مهم وهو أن الناس يستسهلون بإطلاق ألسنتهم في الوقوع في أعراض الآخرين ناسين أو متناسين ما يحملهم ذلك الكلام من المآثم وحسبك أن شبه الله الغيبة بأكل لحوم الأموات (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) وأكد صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث ـ على خطر آخر وهو أشد من الغيبة وهو اتهام الناس بما ليس فيهم زوراً وظلماً وذلك أعظم جرماً من الغيبة).