mena-gmtdmp

الزيتونة صديقتي

"كتبتُ هذه الكلمة وأنا أراقب مشهداً يتكرّر كلَّ يوم: المستوطنون الجُدد في إسرائيل، يقتلعون أشجار الزيتون الدهرية ليقيموا مكانها، وفوق أرضٍ مُغتصبَة، مستوطناتٍ جديدة".

***

أُبصرُهم...

يحملون الفرّاعات ويعملون تقطيعاً في أوصال الخضرة التي لا تزال تزيّن المدينة، بيروت.

عفواً عن استخدام كلمة "فرّاعة" فهي قديمة، ولم تعدْ تصلح لهذا الزمان، إذْ استُعيضَ عنها بالمنشار الكهربائي. وحيثما توجّهتَ تسمع أزيزَه؛ وبالطبع لا يشبه زقزقةَ العصافير، أو زغردة الطيور التي كانت، حتى الأمس القريب، تتآوى في عباب تلك الأشجار المعمّرة، وربما تمّ غرسها مع وضع المدماك الأول لبناء المدينة.

***

"إنها حضارة الباطونِ" تُسمّيها الصديقة، وهي تتابع نهوضَ عمارات شاهقة، تشمخ برؤوسها، حتى تكاد تناطح السحب.

وهي عمارة المتسابقين على جمع الثروات، من دون مراعاة للبيئة، خصوصاً الأشجار.

***

وهذا يحدث في معظم البلدان. وكان آخر خبر طالعَنا عن اقتلاع أشجار الزيتون في "اليونان"، وربما للأسباب عينها: بناء العمارات الشاهقة.

***

وكنت، ولا أزال، أعتبر الزيتونةَ شجرةً مباركة، وربما لأني جئتُ من قريةٍ تحمل إسمها، كما تعني كلمة "كُفيْرالزيت"؛ أي قرية الزيت.

ولا تزال تعثر في بساتين تلك القرية، على أشجارٍ معمّرة، وعمر بعضها يربو على ألف سنة.

ونشأنا في ظلالها.

وكانت تختلف عن سواها من الأشجار إذ لا يقتصر نفعُها على الغذاء الصحّي، (الزيتون والزيت) بل كان زيتُها، ولا يزال يُستخدَم في طقوس الحياة، ومنذ لحظةِ الولادة حتى النهاية.

***

في السنوات الأخيرة، لاحظتُ عودةً مختلفة لشجرة الزيتون، الى حياتنا؛ إذ باتت تُنقلُ من الأرياف لتزيّن حدائق المدن.

ويقتلعونها من أعماق جذورها، بعدما يقومون بتشذيبٍ وتهذيبٍ للأغصان النامية على هواها، هناك، في الكروم والبساتين الجبلية ويأتون بها الى الحدائق القليلة التي لا تزال تحيط بدُور السكن في العاصمة. ويعيدون غرسَها. وإذا كنتَ مثلي، وعلى علاقةٍ وطيدةٍ بتلك الشجرة، وصدف أن مررتَ بها، وهي في موقع هجرتها الجديدة، تشعر كم أنّها مستوحشة، وحزينة إذ لا تزورُها طيورُ السمّان في موسم الجني؛ ولا تُغرّدُ فوق أغصانها البلابل والحساسين. كما ان أطفال المدينة لا يتنزّهون بين وارف الأشجار، مما يضاعف شعورَها بالغربة والإقتلاع.

***

وكانت تحضن طفولتنا، في السنوات الأولى؛ نأوي الى ظلالها، هرباً من حرِّ الصيف؛ وتكون الثمارُ قد بدأت تتكوّن.

وفي خلال تلك العملية، يَتساقط بعضُ حبّات على الأرض، مما يُشكِّل مادّةَ سلوى ولعب لأطفال تعوّدوا صُنعَ ألعابهم بأيديهم.

وكنّا نستخدم حبّةَ الزيتون بدلَ "الكلّة" ونبتكر منها شتّى الألعاب.

***

لكن الزيتونة المغروسة حديثاً في حديقة القصر المجاور لبيتي، لم تعدْ تجمعُ فوق أغصانها، طيور الهجرة أو الإقامة. ولا مكان في ظلالها ليلعب الأطفال. وهي مُحْتَجَزَة، مثل الناس، ضمن ما اتُّفق على تسميته "مربّعات أمنية"؛ أي المساحات الشاسعة التي تُحيط بقصور مسؤولين يقيمون في خوفٍ دائم على أمنهم وسلامتهم.

***

ولكن ما بالي أنحرفُ عن موضوعي الأساسي، شجرة الزيتون!.. وأقول للغريبة في الجوار: نحنُ صحبة زمان. وسنظلُّ أصدقاء. ولن أتخلّى عن الوقوف بجانبك؛ أي مع الطبيعة، والمحافظة عليها، لأن ذلك يعني المحافظة على الحياة فوق هذه الكرة الأرضية، والتي تتعرّضُ للإنتهاك، ولتحوّلاتٍ تؤثِّرُ على مصير الحياةِ فوقَها.

وأخيراً، أودّ أن أستعير مما قاله الشاعر قبل مئات السنين: "أيا جارتاه إنّا غريبان هانا وكل غريبٍ للغريب نسيبُ".