قمت بزيارة صديقتي لمواساتها بعد أن فقدت ابنها، ذهبت وأنا أحمل قلبي بين يدي، وكنت أدعو الله منذ أن سمعت الخبر أن يربط على قلبها ويثبِّتها ويمنحها الصبر، خاصة وأنا أعلم مدى تعلقها به، فهو ابنها الوحيد، فقد توفي زوجها وهو ما زال طفلاً صغيرًا، فكانت بالنسبة له الأب والأم والأخت والصديقة، كانت كل شيء في حياته، كما كان هو بالنسبة لها كل حياتها ومحور كونها وأرضها وسمائها ومائها وهوائها، جلست أمامي ووجهها يعتصر ألمًا وقلبها يتفطر أنينًا، ودموعها الصامتة تنبعث من أعماق روحها، وأخذت تُحدثني عنه وتصف لي كيف أصبح طعم الحياة في غيابه ولون الأيام بعد رحيله، وتسرد ذكرياتها معه، فالألم ليس في رحيل منْ نحب، لكن تكمن قوته في رحيل أرواحنا معهم، قالت بكل ثبات: الأنين بداخلي لا ينام، وشريط حياتي أراه أمامي منذ حملت به، وأتذكر ولادته وتربيته ومشوار حياتنا معًا، ثانية بثانية، فقد كان توأم روحي، كان الفرح الذي يغزل خيوط أضوائه في كياني، فأيامنا كانت تداعبنا وتضحك لنا، وكانت السعادة دائمًا رفيقة دربنا.
أعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أراد أن يمتحن قوة إيماني ومدى صبري، وقدر لصميم فؤادي وقرة عيني أن ينتقل للرفيق الأعلى، بعد أن عانى من المرض سنوات، ورغم ذلك كان تفاؤله كبريق الألماس لم ينطفئ أبدًا، وإصراره على الصبر كالحديد لا يلين، وابتسامته لا تغادر وجهه حتى في أشدِّ لحظات مرضه كان يمنحني قوة الصمود التي أمده الله بها، كان صابرًا ويريد أن يراني صابرة.
لقد كان إنسانًا متميزًا بأخلاقه بشهادة جميع منْ عاشره وتعامل معه، كان منتجًا ومبدعًا في عمله، فامتلك بحسن خلقه حبَّ الآخرين، فأسرهم بشهامته وكرمه وشفافيته وقمة إحساسه بتحمل المسؤولية من دون كلل أو ملل أو تأفف، تأتي مساندته كالريح العطرة، فكان يجمع بين رقة المشاعر ورفعة الإحساس، يظل على الدوام يبحث عن الخير ويفعله بصمت من دون رياء أو نفاق، ولا يرجو من وراء مساعدته جزاء ولا شكورًا، يضحي بلا مقابل… يُسخر وقته لإسعاد الآخرين، فعطاؤه كان بلا حدود، ومشاركته بلا تصنيف لأنواع البشر، لأنه كان يلتمس رضاء الله.
كان ـ رحمه الله ـ رغم ثقافته وسعة اطلاعه وطلاقة لسانه صامتًا في أفعاله تاركًا تصرفاته تتكلم، ورغم حضوره المتميز إلا أنه بكل تواضع وأدب جمّ يختفي وراء الكواليس ليظهر منْ حوله، فلم تستحوذ الدنيا يومًا عليه، كان بالنسبة لي ابنًا بارًّا وأخًا حنونًا وصديقًا ودودًا وأبًا مثاليًّا ورفيقًا مؤنسًا، بل كان يعني لي أكثر من ذلك، إنه قطعة مني، جزء من نفسي، بل هو نفسي، والآن برحيله تشهد حياتي أصعب أيام عمري، أعرف أن الموت حق، لكن الفراق صعب ويمضي يوم.. ويأتي بعده يوم جديد لا أجده معي فحنيني له وشوقي إليه يزداد، ففي قلبي أرى ملامحه.. وأسمع صوته في أعماقي.. وأظل أبحث عنه فأجده في كل ركن وزاوية وأشمّ رائحته في كل مكان، كل شيء أشعر أنه متعلق به، ولا أدري كيف أستيقظ في الصباح ولا أراه أمامي، فما فائدة عينيَّ وما قيمتي أنا من دون وجوده معي، فكم أفتقد صوته وطلَّته وابتسامته، كل شيء مازال يحمل بصماته حتى جدران المنزل تكاد تنطق وتواسيني، إنه ابتلاء صعب والغصة أبدية تسكن أعماقي، لكن لا رادَّ لقضاء الله، فأنا ـ ولله الحمد ـ مؤمنة بأن لكل أجل كتابًا، وأُشهد ربي أنني راضية عنه وأدعو له بالرحمة والمغفرة والدرجة العالية في جنة الفردوس الأعلى بإذن الله، وأن يربط على قلبي كما ربط على قلب أم موسى، ويُلهمني الصبر ويؤجرني في مصيبتي، وليس لي إلا أن أقول لله ما أعطى وله ما أخذ، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وإني أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي ألقاه فيه بمشيئة الله.. ولحظتها لن نفترق أبدًا سألقاه وأحتويه بذراعي وأضمه إلى صدري وأقول له كم اشتقت إليك.
همس الأزاهير
روي أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تفقد ذات يوم رجلاً من أصحابه فقيل له إن ولده قد مات، فسعى إليه وعزّاه في ابنه ثم قال له: يا فلان أيها كان أحب إليك، أن تمتع به عمرك أم لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته يسبقك إليه يفتحه لك فقال: يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي أحبّ إليَّ، قال فذلك لك، فقيل: يا رسول الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة، قال بل للمسلمين عامة.