mena-gmtdmp

الأناقة

 


كلمة اناقة تعني قاموسياً "حسنٌ معجب".

رفيقتي تنتقد أناقةَ السيّدة التي تستقبلنا، وكانت المناسبة حزينة؛ وفاة والدتها. وهي ترتدي لباساً يليق بسهرة فارهة.

هكذا اصطلح الناس على تخصيص مظهر معيّن لكلّ مناسبة، ويختلف باختلاف البيئة والحضارة.

<<<

 

ولكني أتجاوزُ المظهر الى المحضر، ويكونُ الوجهُ المُطلُّ عليّ ما يهمُّني ويلفتني، لا نوع الثياب.

<<<

 

لكن هكذا هو مجتمع الناس.

وقامت حول فكرة الأناقة صناعةٌ واسعة، وفي كل مكان.

وفي مقدِّمة الزبائن تأتي النساء.

وهنّ يولين المظهرَ أهميّةً قصوى. ومنذ القِدم حاكوا الأمثال الداعمة للفكرة: «كُلْ ما تشتهي والبس ما يريده الناس».

وهذا حسنٌ. لكن بعض النساء يغالين في التركيز على هذا الوجه من الكيان، حتى تصبحَ الأناقةُ شغلهن، ولا تعود الواحدة تعطي للفكر أيَّ اهتمام.

<<<

 

أذكر من المواقف التي آلمتني في سنيّ المراهقة ملاحظةَ أستاذتي، وكنتُ أرتدي لباسَ المدرسة الموحَّد، أي المريول الأزرق، وأنتعلُ الحذاءَ الوحيدَ لديّ، ولونُهُ أخضر؛ وأبدتْ لي نقدَها من خلال مثلٍ انكليزي، ويقولُ «الأخضرُ والأزرق لا يلتقيان أبداً».

<<<

 

لكن الأزياء تتحوّل. وجاء يومٌ أصبح المزجُ بين هذين اللونين آخرَ صرخة للموضة في تلك الفترة.

إذن، مَن يُملي تلك المراسيم؟ وهل هو الطلبُ والذوق؟

أم تأتي الأوامرُ من دورِ الأزياء، والمصمّمين؟

وهمُ فنانون، وفي معظم الأوقات يحلمون مادّةَ عملهم، ويصوّرونها في الخيال، قبل ان يطبّقوها في الواقع.

<<<

 

وهناك منافسةٌ شديدةٌ في هذا المجال، ولا تحدُّها حدود.

نظرة سريعة الى ما حولنا، تؤكّد لنا ذلك.

بعضُ المصمّمين يشطّ بهم الخيال، فتصبحُ المرأةُ في أزيائهم أشبهَ بدمية. وهناك من يحافظُ على احترام الجسد، فلا يزجُّه في سوق الإغْرَاء.

<<<

 

في عرضٍ أخير حضرتُه في القاهرة لإحدى المصمّمات الذكيات، شعرتُ كم كان الفرح يشعُّ مع الأنوارِ التي تغمر المكان والحضور.

وهي فنانةٌ، وتحبُّ مهنتها، كما تحبُّ الجمال، وتقول: إنهما صنوان. ثم تمضي في رسم تصاميم تبرز جَمالَ الجسد والروح في آن؛ وتجعل العارضات يتهادين باعتزازٍ ومرح. وعندما سألتْني عن رأيي قلت:

أُبصرُ الساحةَ بستاناً منوّراً، ترفُّ فيه أسرابُ الفراشٍ الملوّن، وتتهادى في فنائه مخلوقاتٌ من عالمِ الخيال.

<<<

 

لكن عندما تجنحُ بعضُ الأزياء صوبَ الغرابة، تُبعدُ المرأةَ عن عالم الواقع؛ وكأنّما المصمِّمُ، في ذلك، يحاولُ ان يعرضَ طاقتَه على صنع الغرابة، فتصبح الأزياء للفرجةِ وحسب.

<<<

 

ولن أنسى شعوراً انتابني في مطلع حياتي العملية، وأنا أخطو أولى خطواتي في عالم المدينة، باحثةً عن عمل يساعدني كي أسدّد قسط الجامعة.

وكنت أسعى الى وظيفة في التدريس أو الصحافة. لكن السيدة التي احتضنت بداياتي، وكانت شديدةَ الغيرة على مساعدتي، أبلغتني أنها وجدت لي عملاً في إحدى دور الأزياء:

ـ إنهم يبحثون عن شابات لتقديم العرض القادم... أي عارضات أزياء...

ـ وبتلك البساطة قضتْ على أحلام فتاة قرويّة، عاشتْ دهراً تحلمُ كيف بوسعها أن تدخل المدينة، لتفسحَ لها مكاناً بين أهلها، وتحقّقَ أمانيها وطموحَها لتصبح كاتبة.

أذكرُ بأني نمتُ تلك الليلة، وأنا غارقة في دموع القهر والخيبة، خصوصاً وأن الإقتراحَ جاء ممّن كانت مثالاً أسعى الى اقتفاء أثره في عالم الأدب.

<<<

 

وأرى الآن أن نظرتنا الى أنفسنا، والى ما نصبو إليه من قِيَم أو طموح، هو نتيجة التربية والتوجيه في البيت وفي المجتمع. وذلك كلُّهُ خاضع لتحوّلات الزمن.