mena-gmtdmp

طاقة القدر

 

أصوم عنك وفيض النور يغمرني، أصوم عن نفسي وعن أصحابي، في نقطة ما، من الليالي الأخيرة، فقدت الاتصال بأهلي، أخذني الوجد حتى منك، أبلغت عن ضياع نفسي في أقرب نقطة شرطة، لم تجدني الشرطة، ولا الشعب، ولا الحياة الدنيا.. ولا حتى أنتِ.

أصوم عنكِ، وأقيم صلاة الغائب على ما كان أنا، لقد شفطتني طاقة القدر فذهبت ولم أعد، كأنها طبق طائر من أعلى مجرات الكون، ينفتح بابه فيجذب الكائنات الأرضية بقوة تفوق الجاذبية الأرضية بملايين المرات، وتعمل من أسفل لأعلى.

تلك المشكاة الكونية، التي يتحدث عنها البسطاء، فيقولون إنها تنفتح للمسعَدين في الليالي العشر الأخيرة من رمضان، وأغلب الظن أنها في ليلة السابع والعشرين من رمضان، التي اصطلح على أنها ليلة القدر.

ليلة القدر معروفة بركتها في الإسلام، لكن الخيال الشعبي أضاف «طاقة القدر»، ذلك الشباك المضيء الذي ينفتح لقائم الليل الذي وقع عليه الاختيار؛ ليكون من المُسعَدين، وأنا أشعر الآن بأن تلك الطاقة امتصتني إلى عالم لم أعد فيه أحدا، فقدت الصلة تماما بكِ، أخذتني ولم تعطني، وأعطتني كل شيء إذ أخذتني.

لن تحزني إنْ قلت إني لست نادما عليكِ، فإنك لم تندمي يوما على الطعنات التي أدميت بها حبي، فنزف حتى استنزف تماما فلم يعد حبا، بل طيف رمادي لوردة حمراء.

قيل «لقد تدروش في حبها» –أي صرت درويشا أهيم عند الأضرحة- والحق أني توقفت عن حبك منذ زمن طويل، بهت يوميا، وشجه ذلك القلب الذي رسمته في كراستي بقلم وردي، حتى صار كبروة ممحاة.

إن انسحابي المنظم بدأ منذ سنين، وانجذابي البطيء المعبر إلى ليالي الحب الحقيقي، والصدر الدافئ من ذكر الله، حدث أيضا من سنوات، لكنك لم تري شيئا، إلا صورة نفسك في المرآة!

كنت تتزينين لشبح ما، بالقطع ليس أنا، فقد تماهى لوني مع الحائط، فتشاركنا نفس الدرجة من لون الرماد، فإذا نظرت خلفك وجدت جدارا فقط.

على كل حال، أفتح لكِ باب قلبي لتخرجي بهدوء، فالعمر الافتراضي لعمرنا انتهى، انتهت صلاحيته، فلم يعد صالحا للاستهلاك الآدمي. سأصعد إذن سلالم الليل المتحركة نحو الطاقة، إني خائف أن أكون خُدعت، وأن هذه الطاقة التي استبشرت بها ما هي إلا طبق طائر، يخبئ في داخله كائنات مرعبة من كوكب بعيد، على بعد ملايين ملايين السنين الضوئية (السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، فإذا تذكرنا ما أخذناه في المدرسة: أن سرعة الضوء 286 ألف ميل في الثانية)، فاحسبي إذن سرعته في الدقيقة ثم في الساعة، فاليوم، فالسنة، ثم اضربي كل هذا في مليون مليون!

أم أنني ذاهب إلى أبعد من هذا، وهذا النور هو طاقة القدر حقا؟ طاقة القدر التي تحدث عنها أجداد أجدادنا من البسطاء الفقراء المقهورين، الذين لم يصادفوا في الدنيا سعدا ولا سعادة، ولا حتى في ليلة واحدة.

لكن ربما أستحق أنا أن أصعد، لقد صمت منذ طفولتي اثني عشر شهرا في السنة، وجئتِ حاملة إبريقا ظننت أنه للسقيا حتى الارتواء، أخذت رأسي إلى صدرك وسقيتني من الإبريق، كان ملحا أجاجا هو خلاصة بحر الملح العظيم، البحر الميت.

لم ينفد الإبريق، ولم ينفد حبي لك، لكن آخر قطرة قصمت ظهر البعير، تركز فيها كل ملح الوجود –فارتميت على سطح بيتنا مخنوقا أستجدي نسيم الليل؛ حتى انفتحت لي الطاقة...

 

فوداعا يا أصدقائي.. ورمضان كريم.