mena-gmtdmp

الأمل.. في فصل الإرهاب عن الغزل!


 صورة الموت والقتل في التراث العربي لا تغيب أبدا، وإذا كان لها ما يبررها في القتال والصراع، فما الذي يبررها في أمور الحياة الأخرى؟

فما الذي يبرر صورة القتل في الغزل مثلا؟ أو لنقل كيف يستدعي منظر القتل والطعن والدماء صورة الغزل ووجه الحبيبة؟

للمثال: يقول الشاعر الجاهلي عنترة العبسي، مخاطبًا محبوبته «عبلة»، أثناء المعركة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

  مني، وبيض الهند تقطر من دمي

فوددتُ تقبيل السيوفِ، لأنها

 لمعت كبارق ثغركِ المتبسمِ!

تُرى أي رغبة تستدعي «ثغر» الحبيبة، من جراء سيف مبلل بالدماء، في موقع كل ما فيه حرب وضرب، كرٌّ وفرٌّ؟ أين الرومانسية التي يزعمون أنها عند المحبين!

وحتى لا يعتقد معتقد أنني أتصيد الشواهد والأبيات، أسارع إلى القول إن هذه القصيدة منيت بمعارضات وتقليد ومحاكاة وتشبّه، مما يدل على أن الغزل والقتل خدان لفتاة واحدة!

ومن الذين تشبّهوا بهذه القصيدة أبو الثناء الزمخشري الذي يقول:

ولقد ذكرتك والسيوف لوامعٌ

  والموت يرقب تحت حصن المرقب

والموت يلعب بالنفوس، وخاطري

يلهو بطيّب ذكرك المستعذب

وممن تشبّهوا بهذه القصيدة ابن رشيق في قوله:

ولقد ذكرتك في السفينة والردى

  متوقع بتلاطم الأمواج

وعلت لأصحاب السفينة ضجة

  وعنى بذكرك في ألذ تناجِ

وممن تشبهوا ببيت عنترة أبو طالب الرقي في قوله:

ولقد ذكرت والظلام كأنه

  يوم النوى وفؤاد من لم يعشق

وممن تشبهوا بالقصيدة أيضًا أبو بكر السلطي حيثُ يقول:

ولقد ذكرتك والنواطق خرّس

  والخرس تنطق في الجسوم وتصمت

وأنا بقلبي في المجال مردد

  تلك الجموع وحبك المتثبت

وقال أيضًا في تشبيه آخر:

ولقد ذكرتك والعوامل صرفت

  نحوي، وأفعال المواضي تعرب

والروح تضمر والفؤاد مكلم

  وأنا لفعلك في الوغى مستعذِب

وقال أيضا:

ولقد ذكرتك والرقيب معنف

  وقت النزاع عرفت أم لم تعرفِ

وقال أيضًا:

ولقد ذكرتك والهموم تنوشني

  والفكر يدهمه السلو الأبتر

وأنا بذكرك في الوقائع جائلٌ

  فكأن ذكرك في العزائم عنتر

وقال أيضًا:

ولقد ذكرتك والكتائب سَطرت

  حربًا للومي مثل نقش الأسطر

وغني عن القول إن الحب يستحضر الموت في الوجدان الشعبي، خذ مثلاً (أحبك موت) يا «بعد روحي» و«تقبرني» و«عسى يومي قبل يومك» إلخ...

ومن طريف ما يروى أن السيدة أم كلثوم كانت صاعدة إلى منزل الفنان الكبير رياض السنباطي، وبينما هي في الدرج، كان الشاعر بيرم التونسي نازلاً من نفس الدرج، فتوقفت أم كلثوم وأفسحت الطريق لبيرم قائلة له: (انزل يا أستاذ) فرد عليها بسرعة بديهة قائلاً: (إزاي أنزل وروحي طالعة)!

ولا يخفى على القارئ أن عبارة «طلوع الروح» كناية عن التعب والإرهاق، ولكن ما كان يرمي إليه بيرم ليس أكثر من «الغزل بالست»!

وحتى لا يعتقد معتقد أن القلم يستهدف أحدًا، يمكن توسيع الدائرة ليعرف القارئ أن هذا الداء -أعني ربط الحب بالموت- داء عالمي، فهذا الكاتب الساخر جورج برناردشو كان يتحدث في حفلة عن الإخلاص في الحب، فسأله الحضور، هل يعرف قصة ما حول هذا الموضوع؟ فأجاب: إنه يعرف صديقًا له أحب فتاة وصارحها بأنه سيموت إذا لم يتزوجها، ولكنها رفضت.. هنا سأله السامعون باهتمام: وهل مات؟!

فأجاب: أجل«مات»، بعد ستين سنة!

تُرى ألا يمكن القول إن الإرهاب ليس بعيدًا عن الحب، والحب قد يولّد الإرهاب... والله من وراء القصد!