mena-gmtdmp

الفزاعة


النحس يلازمني، أريد أن أترك هذه المدينة، أريد أن أغير حياتي...».

 منذ أن عرفتها وهي تردد نفس الموال، سترحل بعيدًا وتبدأ كل شيء من الصفر.

«قبل طلب انتقالي، سأذهب إلى الشمال».

تنهدت بحزن، كل سنة أنتظر هذا الخبر، ستترك فراغًا هائلاً في حياتي.

هي زميلتي في العمل منذ أكثر من تسع سنوات، لا أذكر يومًا لم تتبرم فيه من عيشتها في بلدتنا الساحلية الصغيرة، ظروف الشغل لا ترضيها، والراتب لا يرقى إلى ما تتمناه، والسكن لا يعجبها، والناس الذين تحتك بهم لا ترتاح إليهم، والمستقبل لا يبدو لها مشرقًا، تشكو من كل شيء، ولا ترى الفرج إلا في تغيير شامل تتحدث عنه دون أن تبدو مستعدة للقيام به.

«جئتِ لتساعديني، لا أعرف من أين أبدأ، سأستلم الشغل في بداية الشهر، وعليَّ أن أجهز حالي...».

لم أصدق أنها سترحل فعلاً حتى رأيت عربة النقل أسفل شقتها الفارغة، ألم الفراق كان أكبر مما توقعته، تقاسمنا الغربة سنوات في هذه المدينة، وحلمنا بالعودة إلى أهلنا، وطال انتظار قرار الانتقال، ثم تزوجت وأنجبت، وبقيت صديقتي معلقة قربي، فلا هي عادت إلى أهلها، ولا هي بنت حياتها هنا.

«أنا منحوسة...» رددت أمامي مرارًا، واحتجتُ لوقت طويل لأدرك أنها جادة أكثر مما أتصور في الكلام الذي تقوله، خطب ودها كثيرون، ولم تكلل أي من القصص التي خاضتها بالزواج، تعرفتْ في أولى سنوات استقرارنا بالمدينة على شاب ميسور الحال، أغدق عليها الهدايا، ودوخها بالكلام المعسول والوعود الحالمة، ثم خرج من حياتها دون أن يقدم تبريرًا مقنعًا،«لم يكن جاهزًا لارتباط جدي» هذا ما قاله، ورفض أن يبقى على صلة بها، تقرّب منها بعض زملائنا في العمل، وبدا كل منهم واثقًا من نفسه وجادًا في طلبه، ثم لم يلبثوا أن انسحبوا كما انسحب حبيبها الأول، بعجلة وبشيء من الغموض الذي لم نفهمه أبدًا.

رغب أحد أقارب زوجي أن يتعرف عليها بعد ذلك، كنت أنا من حبك الأمر، حزّ في نفسي أن يطير العرسان من بين يدي صديقتي دون سبب واضح، لم يكن فيها ما يعاب، أعجب الرجل بها حين التقاها، وبدآ يتواعدان، وذات ليلة اتصلت بي وهي تبكي لتخبرني بأن حبيب القلب غيَّر رأيه، وأفهمها بأنه لا يصلح لها وهي لا تصلح له «يرى أن نظرتنا للحياة مختلفة، بل متناقضة...» أفصحت وهي تجهش في الهاتف، ووبخني زوجي لأنني حشرت نفسي وحشرته معي في حكاية لا شأن لأي منا بها..

«سأفتقدك...» قلت لها وأنا أودعها.

«سئمت من عيشتي، أريد أن أغيرها...».

بكينا معًا.

 لم أتخيل أن يؤلمني فراقها إلى حد البكاء ليل نهار، بقينا على اتصال.

«النحس يلازمني...» قالت لي في إيميل طويل.. «تعرفت على شخص، وبدأنا نتقابل، ثم أخبرني بأنني لا أناسبه، شيء ما في تفكيري لا يلائمه، ماذا بالضبط؟ لا أدري، وهو لا يريد أن يشرح، قال إن عليَّ أن أتقبل الأمر كما هو، وهذا يخيفني، هناك أمر خطأ في علاقتي بالرجال، ولا أحد ممن عرفتهم يريد أن يدلني على مكمن الداء، كيف سأعدل الوضع إن بقيت أجهل كل شيء عنه؟ سأصاب بالجنون...».

انشغلت بأمرها، ولاحظ زوجي ذلك، وانزعج منه: «لن نحمل همها حتى وهي بعيدة، هي كبيرة كفاية لترعى نفسها بنفسها...».

«أشعر بالتعاسة.. لماذا قدمت إلى هذه المدينة؟» إيميلاتها لم تتوقف، ونبرة الحزن والإحباط لم تفارقها.

«تعرفتُ على شخص يبدو مختلفًا، هو غامض شيئًا ما ولكنه لا يبدو خائفًا من طريقة تفكيري، آمل أن يقضي سحره على نحسي...».

تمنيت لها ذلك.

«سوء الطالع لا يريد أن يفارقني، انتهت العلاقة، الرجل متزوج ولديه أطفال، صدمة لا تتخيلين وقعها عليَّ، لا أفهم ما يحدث لي، غيرت كل شيء في حياتي ورغم ذلك... أموري لا تستقيم.. لا فائدة من كل ما أقوم به، لا فائدة من شيء، وداعًا».

كان ذلك آخر إيميل تلقيته منها.

قدمت استقالتها لفرع شركتنا في طنجة، واختفت، ولم أعد أسمع عنها.

زوجي يؤكد أنها لا شك هاجرت إلى أوروبا ورمت ماضيها وراء ظهرها، لا أدري... ولكنني أخشى أن تكون قد ارتكبت حماقة، لم يلمس غيري مقدار الإحباط والكآبة اللذين غلفا حياتها قبل أن تقرر التواري بعيدًا.